النخيب.. هل سيستدرجوننا لتكرار الخطأ؟

TT

في الثاني عشر من الشهر الحالي، قامت عصابة إرهابية بإيقاف حافلة متجهة من كربلاء إلى دمشق، وقتل 22 من ركابها، وترك النساء وبعض الشيوخ في الغالب لأجل أن ينقلوا ما جرى. كان من الواضح تماما أن طريقة ارتكاب المجزرة واستهدافها الصريح لمدنيين وموقع تنفيذها أريد بها إيصال رسالة واستدراج رد فعل يقوي الانقسام الطائفي. أرادوا أن يظهر الحادث بوصفه اعتداء من مجموعة سنية ضد مدنيين شيعة، وبالتالي يدفعون باتجاه عمل انتقامي وهو ما كاد يحصل فعلا حينما سرى في كربلاء رد فعل متشنج ودعوات للانتقام، ثم قامت قوات أمنية يقودها مسؤولون في محافظة كربلاء باعتقال 8 مواطنين في المنطقة واتهامهم بارتكاب الجريمة ثم اقتيادهم إلى كربلاء وسط أجواء احتفالية رفعت من سقف التشنج حينما أخذ زعماء عشائر في محافظة الأنبار بالتهديد بقطع الطريق الدولي وقطع التعامل مع الحكومة المركزية.

اللافت بهذه القصة ليس فقط الجريمة وبشاعتها؛ فهي جزء من سلسلة طويلة من الجرائم التي ارتكبت لدوافع طائفية أو أريد لها أن تبدو كذلك، بل توقيتها وطبيعة رد الفعل الذي استدرجته. تأتي الجريمة تزامنا مع 3 متغيرات حساسة، الأول: هو المتغير المتعلق بالصراع السياسي على خلفية عدة قضايا كالصراع بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان حول الصلاحيات وقانون النفط، وهو صراع ستكون لنتيجته آثار حول مستقبل الدولة والنظام السياسي وطبيعة التعامل مع ملف النفط الحساس، وهنالك الصراع القديم الجديد بين القائمة العراقية - تحديدا فريق علاوي - والتحالف الوطني – تحديدا فريق المالكي – حول مصير اتفاقية الشراكة وتوزيع المناصب والوزارات الأمنية ومجلس السياسات الاستراتيجية. وثانيا: يأتي الحادث مع اقتراب موعد الانسحاب العسكري الأميركي من العراق وعلى خلفيته التباين في المواقف تجاه مرحلة ما بعد الانسحاب وحجم القوات التي ينبغي بقاؤها، بل وجدوى البقاء. وثالثا: هو احتمال ارتباطه بالمتغيرات التي تشهدها المنطقة، وبشكل خاص الأوضاع في سوريا وعلاقتها بمجمل الصراعات والإشكاليات الجيوسياسية في المنطقة.

استدرج الحدث نوعين من ردود الفعل: المتشنجة والمهدئة؛ ففي الأولى اقتربنا من حالة صراع طائفي - عشائري بين مدينتين متجاورتين، خصوصا مع وجود خلفيات جغرافية تتعلق بالنزاع حول منطقة النخيب بين المحافظتين، وكانت التصريحات المصعدة صورة لما يمكن أن يحصل في العراق إذا انفلتت الأوضاع مجددا. وعلى خلفية رد الفعل ذلك اتضحت أكثر إشكالية العلاقة بين المركز والأطراف، فأن تصل الأمور إلى حد أن المحافظات تأخذ على عاتقها تنفيذ القانون أو التهديد بقطع علاقاتها مع الجيش والشرطة الاتحاديين، كلها توحي بمدى هشاشة الأوضاع في العراق وحساسية موقف الحكومة المركزية خصوصا تجاه قضايا من هذا النوع؛ حيث يؤدي أي خطأ في التقدير إلى مفاقمة المشكلة بدلا من حلها، وبهذا الخصوص اتضح الدور السلبي الذي تلعبه بعض وسائل الإعلام في انتقائيتها و«طائفيتها» الصريحة أو المضمرة، وفي سعيها لتكريس الفوضى. لكن على الجانب الآخر كان هنالك نوع آخر من ردود الفعل يتسم بالميل إلى التهدئة، أحيانا قام به ذات الأشخاص الذين صعدوا في مرحلة ما؛ فمثلا كانت زيارة الشيخين أحمد أبو ريشة وعلي حاتم السلمان إلى كربلاء وحضورهما عزاء الضحايا وتصريحاتهما التي تؤكد وحدة الدم بين أبناء المدينتين قد مثلت نقلة نوعية عن رد الفعل المتشنج الأول، وكانت إجراءات التهدئة في المركز عبر مبادرة رئيس الوزراء ونائبه لتأكيد ضبط النفس والإشارة إلى أن المستهدفين كانوا من أبناء الأنبار وكربلاء، ثم الأمر بنقل المعتقلين إلى بغداد، ومن بعد إطلاق سراح بعضهم، قد أعطت إشارة إيجابية في أن المركز وقواه لن يستدرجا إلى الفخ. البعض عاب على الحكومة رضوخها لتهديدات عشائرية، لكن في حقيقة الأمر أن خطورة ما يجري على الأرض أكبر أهمية من تصورات نظرية غير قابلة للتطبيق في الوضع الحالي، بل إن أفضل السبل التي يمكن للدولة أن تحكم عبرها هي التفاوض مع القوى الاجتماعية وإيجاد القنوات المؤسساتية وغير المؤسساتية الفاعلة لاستيعاب هذا النوع من الصدمات.

ربما كانت الجهة المرتكبة لهذه الجريمة ومن يكمن وراءها قد أصيبت بالإحباط من نجاح رد الفعل المهدئ في استيعاب التداعيات ونزع فتيل الأزمة، بل وتحويل ما كان يبدو بداية لصراع طائفي حاد إلى مناسبة للتضامن والتذكير بالمصير الواحد؛ لذلك فإن تلك العصابات ستلجأ، في الغالب، إلى محاولة تكرار الجريمة أو ما يشبهها؛ فهنالك ميل كبير لاستثمار اللحظة الراهنة، إما لخدمة أطراف سياسية تميل إلى تحسين رصيدها في بيئة صراعية يسودها استقطاب حاد ومناخ من عدم الثقة، وإما لخدمة أجندات إرهابية من أجل إشعال الفوضى وتوفير بيئة مناسبة لإعادة العمل المسلح وتشكيل الميليشيات، وهي أجندة ستكون هذه المرة أكثر فتكا مع حالة اللايقينية السائدة في سوريا ومع ما يمكن أن تتحول إليه الحدود بين البلدين، وهي مناطق غالبها صحراوية مستوية وتعيش على جانبيها عشائر متصاهرة وأحيانا العشيرة ذاتها منقسمة إلى شطرين، ففي ظل الأزمة عراقيا وسوريا قد تتحول النزعات العشائرية وغياب الدولة إلى برميل متفجر قد يستفيد الكثير من المغامرين من تفجيره. إن الطبيعة تكره الفراغ، وقد يؤدي غياب سلطة الدولة أو محدوديته إلى توفير مناخ ملائم للقوى التي تنازع الدولة كي تحاول أن تسيطر على الأرض، غير أن سيطرة الدولة ليست أمرا قرينا فقط بوجود قواتها المسلحة، بل إن هذا الوجود قد يتحول إلى عامل تأزيم لا حل. سلطة الدولة لا بد أن تقترن بالشرعية وبقدرة هذه الدولة على التفاوض مع القوى المجتمعية المؤثرة من أجل بناء الثقة ووضع آليات مناسبة لعلاقة رضائية بين الطرفين.

للأسف لا توحي الظروف السائدة داخل الطبقة السياسية العراقية بأنها بوارد التصرف بوعي لمنع التأزيم على مختلف صعده، وقد بلغ النظام التوافقي أقصى مديات الفشل وصار منتجا للأزمات والتقسيم وإهدار الطاقات والأموال. حادث النخيب يعكس إمكانية أن تؤدي تصرفات الطبقة السياسية إلى تعزيز الفجوة بين إشكالياتها وبين التحديات التي يكابدها المجتمع والناس والتي قد تدفع البعض إلى شعور مطلق بلا جدوى الاعتماد على السياسة والسياسيين، وهو شعور ينطوي على خطر المجازفة بالانزلاق نحو أدوات أخرى لحماية الذات.