آخر الفرسان الثلاثة

TT

جرى نحت تاريخ فن النحت العراقي المعاصر بفؤوس هؤلاء الفرسان الثلاثة، جواد سليم، وخالد الرحال، ومحمد غني. درست واشتغلت معهم جميعا. بيد أن الفن العراقي لم يقم على كتفي وإنما على أكتاف هؤلاء الفنانين الثلاثة الذين وضعوا في الخمسينات الذهبية أسس فن النحت والحركة الفنية في العراق عموما. كان سيدهم جواد سليم الذي تميز هواه بالروح البغدادية، ووصل أوجه في النصب الشهير المطل على ساحة التحرير، تخليدا لثورة «14 تموز». توفي رحمه الله فجأة في قمة عطائه. تسلم القيادة خالد الرحال الذي استوحى هواه من الروح السومرية، وما بقي من آثار العراق القديم. حلت به لعنة صدام حسين فمات بالسرطان، نتيجة إدمانه الشرب والتدخين، ولم يكمل ذراع بطل قادسية صدام. قام بإكمال العمل خليفته في النحت، محمد غني، الذي تعلق بالتراث العباسي فترك مجموعة تماثيل ضخمة تمثل ذلك التراث، شهرزاد وشهريار ومن سار في مسارهما. بقي الفارس الوحيد من ذلك الثلاثي وتوفاه الله قبل أيام في مهجره بعمان، حيث أقام منحتا بعيدا عن الوطن الذي أحبه.

كانت لي علاقة صداقة وطيدة مع الفقيد تقاطعت في شتى المفارق وتخللتها الكثير من المقالب والطرائف. كنت استشاريا في المركز الثقافي العراقي في لندن عندما أقمنا معرضا عالميا لأعماله. انتهى المعرض وقمنا بشحن أعماله إلى العراق. كانت كلها تقريبا من البرونز الثقيل، وجلس الفنان في بغداد ينتظر وصولها. مرت أسابيع ثم شهور وهو يراجع ويسأل عن مصيرها. أخبرناه بأننا قمنا بشحنها حسب الأصول على طائرات «الخطوط العراقية». راجع مكاتب ومخازن الشركة في بغداد فقالوا له «اعتبرناها بضاعة فسلمناها للجمارك». ذهب لمراجعة الجمارك فوجهوه من مكتب إلى مكتب ومن مخزن إلى مخزن من دون أن يعثر على أي أثر لها. قالوا له «كلا لم نتسلمها.. اسأل عنها في (الخطوط). لقد كذبوا عليك.. كل موظفي (الخطوط) كذابون». قال له أحد الحمالين الكرد «بابا أستاز.. هزا موزف عرب.. هزا ما يعرف الصدق من الكزب!».

راح الزميل الفقيد يدور من مكتب إلى مكتب، يسأل ويبحث عبثا. فكر في الأخير في إقامة دعوى ضد المركز الثقافي العراقي يطالبهم فيها بتعويض جسيم عن أعماله المفقودة. وفيما كان يعد نفسه للمعركة القضائية، دخل أحد الكناسين على مأمور الجمارك يطلب موافقته على التخلص من هذه «القلاقيل» الخردة الملقاة في آخر العنبر. ذهب المأمور لمعاينتها وفتح التليفون حالا إلى النحات الكبير «أستاذ محمد، الموظف المسؤول اعتقد أن هذه القطع المعدنية مجرد أجزاء خربانة من أعمال متروكة، فاعتبرها زبالة، وطلب من العمال رميها في قعر العنبر، ونسوا أمرها.. تعال شوفها وخذها».

لم يعرف الزميل الفقيد هل يضحك أم يغضب. ذهب لتسلمها بعد أن انتبه القوم إلى أنها أعمال فنية لفنان ذائع الصيت، فأسرعوا لنهب ما خطر لهم نهبه وحمله منها. وأنا بدوري لم أعرف، وأنا أستمع لصديقي الفنان رحمه الله، هل أضحك أم أغضب أم أبكي على هذا الوطن.