مسكين المستر باندا.. تأملوا لو كان عربيا!

TT

«وطن يُباع ويُشترى.. ونصيح فليحي الوطنْ

لو كنت تبغي خيره.. لدفعت من دمك الثمن»..

(إبراهيم طوقان)

هذا خبر ورد يوم 23 سبتمبر (أيلول) على خدمة وكالة الصحافية الفرنسية (أ.ف.ب)، وأنقله حرفيا كما ورد:

«أقر الرئيس الزامبي المنتهية ولايته روبياه باندا، الجمعة، بهزيمته في الانتخابات الرئاسية التي جرت الثلاثاء وفاز بها زعيم المعارضة مايكل ساتا، مؤكدا أنه (يقبل النتائج) التي أعلنت في وقت متأخر من ليل الخميس الجمعة. وقال الرئيس في خطاب الوداع (في ما يخصني أنا وحزبي، فإننا نقبل النتائج.. نحن حزب ديمقراطي ولا نعرف من دون الديمقراطية طريقا). وتابع باندا (74 عاما) الذي يحكم البلاد منذ 2008 - في كلمة بسيطة وصريحة لمنافسه الفائز - (تذكروا أن الانتخابات الرئاسية القادمة ستحاسبكم أيضا. عاملوا من هزمتم بالاحترام والتواضع الذي تريدون أن تعامَلوا به حينما تدق ساعة هزيمتكم)».

باندا حكم زامبيا منذ عام 2008، أي قبل ثلاث سنوات فقط.. لا 30 سنة ولا 40 سنة. لكنه، مع هذا، لم يتذرع بأن هذه الفترة قصيرة جدا لكي يباشر مشاريع إصلاحية اقتصادية وسياسية. ولم يتهم معارضيه السياسيين بأنهم عملاء ومخربون هدفهم ابتزاز الوطن بالحرب الأهلية، كما أنه لم يشر أبدا إلى «مندسين» عمدوا إلى دس أوراق مزورة في صناديق الاقتراع.

وبخلاف ما جرت عليه العادة في عالمنا العربي، الأقدم حضارة والأعظم رقيا والأضخم ثروات من زامبيا - التي كانت تُعرف في ماضيها الاستعماري القريب بـ«روديسيا الشمالية» - يظهر أن المستر باندا تأخر جدا في إيجاد الخلف الصالح.. مع أنه في سن الـ74 يفترض به أن يكون قد أنجب «كفاءات» عسكرية وأمنية ومالية مؤهلة تماما للإطباق على «الحرس الجمهوري» و«القوات الخاصة» و«الأمن المركزي».. وما إليها من كتائب وفيالق محجوزة للأبناء والأحفاد.. وممهورة بأسمائهم الكريمة.

أيضا يبدو أن فترة السنوات الثلاث لم تساعد باندا كثيرا على استتباب «سكون» القبور وفرض «صمت» الأصنام.. ولا كانت كافية لتأسيس منظومات مالية «مافيوية» تقوم على المحسوبية والفساد والاحتكار والإثراء غير المشروع.

أكيد ما كان حصل للمستر باندا المسكين ما حصل لو كان فقط تعرّف عن كثب على الإمكانيات الفذة للمحافظة على السلطة.. المختزنة في جمهورياتنا العربية المناضلة ضد الإمبريالية والأصولية.. تلك الجمهوريات حيث لا وسيلة تخاطب تعلو على «رفيق» أو «أخ».. ولو وسط حمامات الدم وغزوات «الشبيحة» والهرولة الفعلية نحو واقع تقسيمي لا وحدة بعده.

أنا أقر بأن معلوماتي عن زامبيا، التي استقلت في أواخر 1964، أقل بكثير مما أعلمه عن اليمن وسوريا وليبيا، لكنني واثق من أنه لم يخرج من زامبيا خمسة أباطرة حكموا الإمبراطورية الرومانية عندما كانت تحكم العالم، كالأباطرة الذين خرجوا من بلاد الشام وليبيا.

ومتأكد جدا من أنه، مع احترامنا للشعب الزامبي الصديق، ليس في بلده ما يداني عظمة إيبلا وماري وأوغاريت وصبراتة ولبدة وشحات.. وعرش بلقيس وتريم وشبام وزبيد.. ولم تشيّد في أرضهم أبنية مثل غمدان وبينون وسلحين وقلاع حلب والحصن والمرقب وشيزر.

وطبعا لم يتشكل لا في زامبيا ولا غيرها في طول الأرض وعرضها أقدم من الجمعيات المهنية والتنظيمات الفكرية - الحرفية التي أبصرت النور في دمشق وحلب، وبخلاف بلاد الشام واليمن لم تخرج من زامبيا - حسب علمي - جماعات أسست ممالك تبعد عن أرضها آلاف الأميال.. وانتشرت منها هجرات تنوير وإعمار طبقت الخافقين.

تلك هي حالة زامبيا «المنكوبة» بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذه حالتنا حيث لا تشبع قياداتنا «التاريخية» من صنع التاريخ، عقدا بعد عقد، على ركام أوطاننا وجثث أطفالنا ودموع نسائنا وشماتة أعدائنا.

بالأمس استمعت ككثيرين لخطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما، وأيضا لخطاب - ابن بلده - رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. استمعت... لكنني لم أصدم ولم أستغرب.

بعد 30 أو 40 سنة من العجز... لماذا نتوقع من واشنطن وتل أبيب غير ما سمعناه؟

فحتى مع قدوم «الربيع العربي»، أشرف ظاهرة تحريك للمياه الآسنة في تاريخنا الحديثة، لا بد لنا من انتظار تبلوُر كسر حاجز الخوف والإذلال، وتراجع مفعول الريبة، وتناقص تضخم «الأنا»... قبل أن تصل الرسالة إلى الجميع بأن الأمس شيء والغد شيء آخر.

أما لمَن يتخوفون من غموض المشهد المستقبلي، ويبررون تأييدهم استمرار الوضع المزري الراهن باحتمال «سقوط المنطقة العربية في أحضان الأصولية الدينية»، فأعتقد أن الإجابة بسيطة.

الإنسان الحر قادر - ويعرف أنه قادر - على التغيير في أي مكان وأي زمان، بل ومن واجبه الوقوف في وجه ما يعتبره افتئاتا على حقه أو تعديا على مصالحه، في حين أن العبد الخانع وحده يرضى بفتات المائدة.

ولا شك أبدا، في أن تأخر التغيير في عالمنا العربي جاء نتيجة مباشرة لترويض المواطن وتدجينه. ومن الترويض والتدجين انتقلت الديكتاتوريات العربية إلى مرحلة تالية أشد وأدهى هي تجريده من إنسانيته (de-humanized)، وهذا وضع قال عنه المفكر الراحل إدوارد سعيد ذات يوم إنه يسهل على الديكتاتور حتى القتل.

وحقا، إذا تابعنا كيف تتعامل «ماكينات» القمع الحكومية وشبه الحكومية في الكيانات العربية المنتفضة نلاحظ أنها لا ترى أمامها بشرا لهم الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية، بل وحوشا كاسرة ستفترسها ما لم تبادر إلى قتلها.

أين هذا من قول الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لعمرو بن العاص «مُذْ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا»؟ (رواه أنس بن مالك).

أين هذا من كلمة الرئيس الأميركي العظيم فرانكلين روزفلت «الشيء الوحيد الذي علينا أن نخافه هو الخوف نفسه»؟

أخوفا من قدرتنا على التغيير، وفي صميمه تداول السلطة، الذي يتيح للإنسان العربي التعبير عن حقه وممارسة مواطنيته بحرية ومسؤولية.. نستسلم لمن يذل إنسانيتنا كل يوم؟.. نستكين لمن يعاملنا كلاجئين وموال وعبيد وطارئين مهما كانت هويتنا؟.. نسبّح بحمد من يعتبر إبقاءنا على قيد الحياة مكرمة، و«صبره» على مطالبنا منّة؟

إنها أسئلة غير بريئة.. نطرحها على من لا يرى في «الربيع العربي» إلا ذمية مستترة.