موت الفجأة السياسي

TT

أشار ابن خلدون في نظريته الشهيرة بأن حياة الدول مثل حياة البشر؛ شباب فهِرَم فموت، ونستميحه العذر لنضيف بأن حياة الدول يسري عليها أيضا «موت الفجأة» كما يسري على البشر، ولو فتشت في أعراض موت الفجأة للآدمي لوجدت أن في جسمه أعراضا تتراكم مع الزمن لا يحس بها المريض مهما بدا لنا جسم المريض صحيحا معافى، فتعقيدات الجسم غير مدركة، وكما يقول العامة عن المرأة حين تكون متزينة لكنها «خربانة» (خلاخل والبلى من داخل)، كثير من حالات الموت الفجأة للآدمي بسبب «ضغط» في ارتفاع الدم لم يكتشفه المريض، وكذلك الدولة تعاني من «ضغط» شعبي لا تدركه الأنظمة ولا تعرف عنه، أو تعرف عنه وتتغافل عنه بسبب الرغبة الفطرية في الأنظمة، كما البشر، في سماع الكلام الحلو المبهج، لا الكلام الذي ينكد وينغص، ونسمع أيضا عن موت الفجأة عند البشر بسبب انسداد في الشرايين لم يكتشف إلا بعد تشريح الجثة، وكذلك جثث الأنظمة التي سقطت، فقد شرحها المختصون واكتشفوا أن انسدادا بل انسدادات سياسية ودينية وحقوقية لم ينتبه لها ولم تظهر أعراضها بقوة إلى أن أغلقت الشرايين بالكامل فماتت أنظمة بن علي ومبارك والقذافي فجأة.

الأنظمة العربية التي سقطت بدت للناظر من أول وهلة أنها أنظمة متماسكة، جيش قوي وأمن أقوى، وهيبة خارجية ومكانة دولية ثم فجأة كما في موت الفجأة يموت النظام بسكتة غير متوقعة، ونظام بن علي يعتبر مثالا صارخا لإصابة النظام بموت الفجأة، فابن علي نفسه رجل أمن قبل أن يكون رجل دولة يعرف بالضبط من أين يأكل الشعب كتف النظام فعمل على حماية كتفه ونفسه ونظامه بأعتى الوسائل، لدرجة أن من يرى تمكن بن علي ومهارته في الإمساك بتلابيب النظام والعض عليه بنواجذ كنواجذ النمر أنه لن تهب عليه نسائم تغيير ناهيك عن عواصف تدمير، لكن نظامه أصيب فجأة بموت، فجأة أذهلت العالم كله، حتى إنك قبيل سقوط نظام بن علي لو قال لك أحد رتب نظام بن علي من حيث توقيت السقوط لجعلته في ذيل القائمة.

وقل ذات الشيء عن نظام حسني مبارك الذي بلغت الحاسة الأمنية لديه أنه جعل الأمن المركزي، الموكل بحماية نظامه، في عدده أكبر بأضعاف من عدد جيشه النظامي، وثبت علاقاته بأميركا والدول العظمى وقدم تنازلات مذلة كي تظل هذه الدول المؤثرة حامية لظهره لكنه هو الآخر أصيب بموت الفجأة وتلاشى الأمن المركزي فجأة، وحتى أميركا والدول الغربية العظمى تخلت عنه فجأة، فلم تكتف بإيقاف مساندتها له فجأة وهو يتعرض لموت الفجأة بل وكزته وهو يترنح للتعجيل بسقوطه، وكأنها تأخذ بالحديث (وليُسِنَّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته).

وبعيدا عن الأنظمة العربية سرت ظاهرة موت الفجأة على الاتحاد السوفياتي الذي لم يتصور له هذا النوع من الموت الفجأة وهو من هو بقواته العسكرية الضاربة وترسانته النووية المدمرة ونظامه الستاليني القمعي، فهوى فجأة كما هوى برج نيويورك بطريقة لم يتوقعها أكثر الناس تفاؤلا، وهذا يجعلنا نتجرأ فنتوقع أن إسرائيل ليست استثناء، وأن موت الفجأة سيصيب نظام إسرائيل فجأة، خاصة وهي التي تربض على صفيح ساخن من العداوات والاحتقانات والاضطرابات.

[email protected]