لحظته التاريخية وحده

TT

ثمة كتاب جميل عنوانه «أشهر خطب التاريخ» يضم تلك الخطب التي تحولت إلى منارات ومواثيق، مثل خطاب أبراهام لنكولن ضد العبودية وخطاب التنصيب الذي ألقاه جون كيندي وخطابات كثيرين غيرهما. لا شك أن الطبعة التالية سوف تخلو من خطاب محمود عباس: ليس في الأدب السياسي العربي إدانة أكثر بلاغة ووضوحا ورقيا وواقعية وإقناعا لإسرائيل.

كان هذا أبو مازن في His finest hour، كما يقول الأميركيون، في أبهى عمله السياسي، أكثر موقعا. الرجل الذي صمت طويلا على ظلم إسرائيل وأميركا، وتجاهل العرب وازدرائهم، ورداءة بعض الفلسطينيين، وفراغ اللفظيات التي لم يبق الاجترار شيئا منها، هذا الرجل وقف يرد مرة واحدة، ويلقم الجميع حجرا واحدا. وليس أظلم من إسرائيل وأميركا سوى العرب الذين تمادوا في ظلم محمود عباس، بالمواقف والمؤتمرات والتخوين والتشكيك حتى كادوا يصنفونه في حزب كديما أو الحزب الديمقراطي الأميركي.

وكان ذلك مؤلما دائما. ولم يحاول أبو مازن مرة أن يرد على أحد. ولم يصدر صحفا ترد. ولم ينشئ فضائيات ترد. وبعض الفضائيات صورت المفاوضين الفلسطينيين وكأنهم يفاوضون عن إسرائيل وليس معها. وكان رد السلطة مؤدبا، وكما تفعل الدول العريقة، استقال صائب عريقات في خطوة لا سابقة لها في العالم العربي، حيث الاستقالة جبانة لا شجاعة.

بدا الجميع مضحكين بعد خطاب أبو مازن. حتى نتنياهو، الذي لم يتهم مرة بخفة الظل، بدا مضحكا وهو يستعجل شد سرواله إلى خصره داعيا إلى شيء لم يسمع به في حياته يدعى المفاوضات. وحتى توني بلير تذكر قبل الذهاب إلى النوم أنه رئيس شيء صدئ يدعى اللجنة الرباعية فقرع يوقظها من النوم فاكتشف جثة باردة لا تزال كما ولدت.

كنا نهتف لا للاستعمار، فصرنا نهتف لا للاستحمار. الأول أرحم من الثاني. الأول صريح واضح، ولا يحمل ابتسامة توني بلير ولا خطابه الأخير الذي صاغه كمحام سابق يكتب بحبر التمويه. خطاب فارغ إنشائي يحتقر ذكاء سامعيه وقارئيه وطابعيه ومترجميه، وحتى ذكاء المسز بلير، التي اعتادت على أن السياسة فن الغفل والاستغفال.

سوف يشعر، أو بالأحرى ربما يشعر، بلير بالخجل إذا قرأ خطاب محمود عباس. سوف يدرك أن المظلوم التاريخي قادر على بلاغة تشرشل وارتقاء أبراهام لنكولن، وأن الكذب المصوغ كالحلي المزيفة لمعان بلا بريق ولا ألق.