درس من العراق

TT

جاد العراق بدروس ومنجزات جليلة وكثيرة على البشرية. والآن أصبح بحد ذاته درسا للشعوب المتخلفة والنامية. استمعت لزعماء الثورة في ليبيا فوجدتهم يؤكدون دوما على ضرورة تحاشي ما جرى في العراق. وقع مثل ذلك عندما اجتمع قادة الدول الغربية مؤخرا في باريس لتدارس ما ينبغي فعله في ليبيا. ولكنهم قضوا جل وقتهم، كما سمعت، ليس في التمعن في ليبيا وإنما في التمعن في ما جرى بالعراق من فشل. أصبح هذا البلد الحضاري رمزا ومرادفا للفشل، تماما مثلي ككاتب ومفكر.

درسوا كيف يمكن تكرر هذا الفشل في ليبيا. لو كنت بينهم لقلت أول شيء عليكم تحاشيه هو تسليم شؤون البلد بيد الأميركان. فالولايات المتحدة لا خبرة لها ولا تاريخ في إدارة شؤون المستعمرات والشعوب المتخلفة، كما لبريطانيا وفرنسا. وترتبت على ذلك سذاجة في سياستها الخارجية في هذا القطاع. كما أن الحكومة الأميركية تخضع بصورة كبيرة لأثر ونفوذ الشركات الأخطبوطية الكبرى واللوبيات السياسية. وطبعا تسعى هذه الشركات واللوبيات إلى فرض مصالحها الآنية على البيت الأبيض. لا ننتظر من مديري هذه الشركات أن يفكروا في مستقبل الشعب العراقي أو الليبي. وبالنسبة لعالمنا العربي لا تستطيع أي حكومة أميركية تحدي اللوبي الصهيوني ومصالح إسرائيل في أي قرار تتخذه.

الشيء الثاني الذي عليهم أن يستوعبوه هو تاريخ أوروبا. فحضارتها وديمقراطيتها الراهنة لم تأت بين عشية وضحاها. استغرقت نحو سبعة قرون من الحروب والثورات والإصلاحات والتطورات. ما زالت الشعوب العربية تعيش في القرون الوسطى، رغم كل ما نراه في شوارعها من إشارات المرور وسيارات المرسيدس التي نسوقها في الشوارع كما نسوق الإبل في الصحراء. كلما أقرأ شيئا مما كان يجري في ألمانيا أو فرنسا أو بريطانيا في القرن الخامس عشر أو السادس عشر، أقول هذه مثلنا، مثل ما نحن عليه الآن!

من أهم عناصر الفشل، السعي لنقل الديمقراطية الانتخابية البرلمانية الغربية بقوالبها الحالية لتطبيقها علينا. لا بد من التقدم نحوها بصورة مرحلية تدريجية، كما يجري في دول الخليج، وتطوير قوالب وصيغ عملية تصوننا من الفشل، ومن ذلك حصر شؤون الدولة بيد الشريحة المتعلمة والواعية من الشعب. لا يمكن تسليم الإدارة المعقدة لدولة في العصر الحديث بيد ناخبين أميين جهلة، ولا سيما عندما تتضمن هذه الإدارة إدارة مصير المليارات من الواردات السنوية.

والآن أعود لأكرر نفس الذنب الذي لا أستطيع تحاشيه، الذنب المترتب على عدم ثقتي بالمسؤولين. لا بد من الاعتماد على مستشارين دوليين، محايدين ومستقيمين، وطبعا مؤهلين وأكفاء، للإشراف على إدارة قطاعات الدولة وتوجيهها وضبط حساباتها. بدون وجود مثل هؤلاء المستشارين وتمتعهم برقابة وسلطة تنفيذية صارمة فستقع ليبيا وغير ليبيا في مطب السرقات والمحسوبيات التي أودت بالعراق إلى الفشل.