ما الذي يمكن أن تتعلمه إسبانيا من مستعمرتها السابقة؟

TT

سافرت مؤخرا إلى بيلباو في إسبانيا للتحدث إلى مسؤولين حكوميين ورجال أعمال وأكاديميين حول كيفية تنمية اقتصاد يقوم على المشروعات الرائدة. فمع بطالة نسبتها 21 في المائة واقتصاد متهاوٍ - مدفوعا بالديون الحكومية الضخمة وتبعات انفجار فقاعة العقارات - تعتبر إسبانيا في أمس الحاجة إلى سلسلة من المشروعات الجديدة.

في المقام الأول، لا يختلف الاقتصاد الإسباني عن الاقتصاد الأميركي كثيرا. ففي إسبانيا، تماما كما في الولايات المتحدة، تخلق المشروعات الناشئة غالبية فرص العمل الجديدة. وفي إسبانيا، تدعم المشروعات الناشئة قدرا أكبر من الاقتصاد مما هي عليه الحال في الولايات المتحدة. وهناك توفر المشروعات الصغيرة والمتوسطة نسبة 79 في المائة من إجمالي الوظائف. لكن بسبب مشاركة إسبانيا في منطقة اليورو، لا يمكنها خفض قيمة عملتها في محاولة للخروج من مأزق تضخم الديون الذي تواجهه حاليا.

وهذا يجعل إسبانيا في مواجهة تحديين وهما تنمية اقتصادها في ظل أزمة الدين والخروج من مشكلة البطالة المستفحلة. وبوضع هذا في الاعتبار، ربما يعتقد أي شخص أن الحكومة الإسبانية ستدعم خلق وظائف معتمدة على المشروعات الرائدة. على النقيض، تتوافر في إسبانيا العديد من العقبات التي من شأنها أن تقوض إقامة مشروعات جديدة. على سبيل المثال، يتطلب التغلب على المعوقات البيروقراطية التي تحول دون بدء مشروع 47 يوما مقارنة بسبعة أيام في فرنسا أو ثمانية أيام في البرتغال. وقد وضع البنك الدولي مؤخرا إسبانيا في المرتبة 147 بين 183 دولة من حيث سرعة الإجراءات لبدء مشروع جديد. واحتلت جمهورية الكونغو الديمقراطية المرتبة 146.

وهذه الإحصاءات الكئيبة ناتجة عن سياسات اقتصادية متخلفة لا تثبط إمكانية إقامة مشروعات رائدة فحسب، وإنما تعوق النمو الاقتصادي ككل. وتفرض الحكومة الإسبانية ضوابط صارمة على سوق العمل وتجعل كلا من التعيين والتسريح باهظ التكلفة على نحو معرقل. ويمكن أن تصل ضرائب التأمين الاجتماعي التي تدفعها إحدى الشركات للحكومة نيابة عن موظف، قريبة من إجمالي الراتب الذي يحصل عليه ذلك الموظف. وتعتبر إقالة الموظفين عملية مكلفة للشركات، نظرا لأن الشركات عادة ما تمنح العاملين المقالين مكافآت نهاية خدمة ضخمة أو يكون لزاما عليها الاستمرار في دفع رواتبهم لعدة أشهر. وفي المعتاد، في ظل هذه الشروط، لا يكون أصحاب العمل على استعداد لتعيين موظفين جدد. وتعتبر عملية دفع تعويض للعاملين في صورة خيارات اكتتاب في أسهم مكلفة أيضا في إسبانيا. فبحسب جوزيف هاسلام، أستاذ بمعهد إمبريزا لإدارة الأعمال، ربما يكلف وضع خطة خيارات اكتتاب في أسهم أكثر من 200,000 دولار في صورة رسوم قانونية، كما أنها ستنطوي على تعقيدات روتينية إضافية.

ويرى هاسلام أن الأنظمة القانونية والضريبية تثني أصدقاءه وأفراد أسرته بدرجة كبيرة عن الاستثمار - الذي يعتبر شريان الحياة للمشروعات في مراحلها المبكرة. وتبقى حقيقة أن البنوك الإسبانية ليست مستعدة لإقراض الشركات التي لا تملك أصولا. إنه حالة تقييد لرأس المال تفرض نفسها، مع فرض الحكومة قيودا خانقة على أصحاب المشروعات الناشئة ممن هم بحاجة إلى السيولة النقدية لبناء مشروعات وتنميتها. وليس من المرجح أن يحالف مستثمر في مشروع رائد الحظ لتدشين شركة خاصة به، نظرا لأن مفهوم المسؤولية المحدودة المعمول به في الولايات المتحدة غير موجود في إسبانيا. لذلك، فالديون التي تتكبدها أي شركة - ومن بينها ديون التأمين الاجتماعي المستحقة للموظفين - تتحول إلى مؤسسي الشركة في حالة إفلاسها. وهذا يجعل الموظفين أكثر تكلفة، لأن الدين الذي يمكنهم أن يجلبوه على أنفسهم يصبح عقبة تحول دون مضي مؤسس الشركة قدما في طريق إنشاء شركة أخرى. وليس من الغريب، أن تحاول المشروعات الإسبانية الصغيرة الناشئة التي من المفترض أن تتوقف بسبب الخسائر، البقاء حتى وإن لم تكن تحقق نموا - في محاولة لتجنب العبء الضريبي الذي سيلقى على كاهل صاحبها.

وهذه العوامل مجتمعة تمثل عقبات بالنسبة للمشروعات الصغيرة الناشئة في إسبانيا، كما أنها ترسخ نوعا من الكراهية للمخاطرة وإنشاء مشروعات صغيرة والنفور منها لدى الإسبانيين. لذلك، ليس من الصعب فهم سبب اهتمام عدد محدود من الإسبانيين الشباب بالمشروعات الصغيرة الناشئة في مجال التكنولوجيا وسبب رغبة البعض في مغادرة إسبانيا بحثا عن أماكن جديدة توفر فرصا أفضل لإقامة مشروعات رائدة. لقد وجد ناثان ريان، أستاذ أميركي المولد يقوم بالتدريس في جامعة كارلوس الثالث في مدريد، أن طلابه ليسوا على دراية بشكل عام بأن إنشاء شركة متخصصة في مجال التكنولوجيا خيار متاح. في واقع الأمر، قال ريان إنه خلال فترة توليه منصبه في إسبانيا على مدار ثلاث سنوات، لم يناقشه ولو طالب واحد حول رغبته في إنشاء شركة خاصة به، في حين يبدون إعجابهم بشغل وظائف حكومية أو وظائف في شركات إسبانية كبرى متخصصة في الصناعة المصرفية أو الاتصالات.

وتضع إسبانيا أيضا سياسات خاصة بالهجرة وتصاريح العمل تقف كحجر عثرة في طريق قدوم الأجانب المبدعين لإقامة المشروعات داخلها. ويتعين على المهاجرين إثبات أنه يمكنهم خلق وظائف واستثمارات أجنبية في إسبانيا - دون أن يستولوا على وظيفة أحد السكان المحليين. ومن الأمثلة على ذلك كاتلين ميلان، مواطنة أميركية تخرجت من جامعة نورث إيسترن وتحمل درجة البكالوريوس في إدارة الأعمال الدولية. وبدأت العمل مع أصحاب مشروعات محليين في فبراير (شباط) بهدف إطلاق «تيتوان فالي»، وهي شركة تدشين مشروعات جديدة على غرار شركات «سيليكون فالي». التقيت كاتلين في مدريد، وفي رسالة بريد إلكتروني، قالت إنها قد أمضت ثلاث سنوات في محاولة إرسال طلب للحصول على تأشيرة عمل. استمرت الحكومة في رفض طلبها متحججة بتفاصيل ثانوية. «حاولنا مرة دون جدوى تقديم طلب بأنفسنا اعتمادا على عملية تعلمنا خطواتها من هيئة حكومية»، كتبت ميلان. وأضافت: «انتهى بنا الأمر إلى نسيان بيانات لم تكن مكتوبة في أي موضع، ومنحنا معلومات خاطئة عن الموعد». وبالنظر لهذه العوامل مجتمعة، فإنها تفسر سبب افتقار إسبانيا لثقافة إنشاء مشروعات نابضة بالحياة وتجد صعوبة كبيرة في إقناع الشركات الصغيرة عالية النمو بإنشاء فروع لها في دولة رائعة تتمتع بأطعمة رائعة وطقس معتدل.

تحتاج إسبانيا بشدة إلى التخلص من العقبات البيروقراطية العقيمة وتنفيذ برنامج مثل «ستارت آب شيلي». واجهت شيلي بعض العقبات الثقافية التي حالت دون قيام المشروعات الرائدة مثلما هو الحال في إسبانيا. وأدركت حكومة شيلي أن الوسيلة المثلى لإنعاش بيئة إنشاء المشروعات الرائدة المحلية هي استقطاب أصحاب مشروعات رائدة أجانب. لذلك، دشنت العام الماضي برنامجا ألغى التعقيدات الروتينية ومنح مبلغا قيمته 40,000 دولار ومساحة مكتبية مجانية لأصحاب المشروعات الرائدة الأجانب تمهيدا لانتقالهم للإقامة هناك لمدة ستة أشهر. وفي سانتياغو، تشهد إقامة المشروعات الرائدة انتعاشا واضحا، وهناك تغير في المواقف والاتجاهات. إن إسبانيا بحاجة إلى برنامج «ستارت آب شيلي» بدرجة تفوق احتياج مستعمرتها السابقة شيلي له.

* خدمة «واشنطن بوست»