«ما بعد السَكرة»!

TT

من القراءة الثقافية في سوق الآراء العربية التي تحاول تفسير ربيع العرب، تُلاحظ ثلاث توجهات على الأقل. الأولى التي يعتقد فيها البعض، أن هناك احتمالا قويا لإقامة ديمقراطية حديثة، يكون القانون هو الملجأ للناس، والدستور الحديث هو أبو القوانين، مع وجود أحزاب حديثة، تسمح بتداول سلمي للسلطة وفضاء حريات رحب. والتوجه الثاني يرى أن هناك قوى محافظة في المجتمعات العربية، هي التي سوف يكون لها الصوت الأعلى، وتكون الغلبة الشعبية حتى من خلال صناديق الانتخاب، ونتيجة للتصحر السياسي الطويل فإن الغالبية ذات فكر محافظ مستفحل وتقاد ببساطة إلى حكم شبة شمولي تحت سقف طروحات تراثية محافظة. أما التوجه الثالث، فهو هجين وضبابي، لا يخرج عما عرفناه في السابق ربما بحلة جديدة من الخارج.

من منظور الأرقام، فإن أكثر الأرقام تداولا في حجم الحراك الشعبي الذي أنتج ربيع العرب تقول لنا إن الذين ساهموا في الحراك التونسي كانوا تقريبا 12 في المائة من سكان المدن، وأن النسبة المصرية هي 15 في المائة، وأن النسبة اليمنية هي 16 في المائة، ويقدر الحراك السوري الشعبي من سكان المدن أن النسبة هي 17 في المائة. بمعنى آخر إن هذه الطليعة التي كفرت بما هو قائم وقادت الرأي العام الداخلي والخارجي باتجاه مطلب التغيير وصاحبها موقف في البداية متردد من القوى الغربية ثم مساير ثم مؤيد، عن طريق الضغط السياسي (بالاتصال التليفوني أو التصريحات العلنية المؤيدة للحراك، في حال تونس ومصر واليمن وسوريا، أو الاشتباك العسكري المباشر في حالة ليبيا). في مجموع الحالات، هناك جمهور غفير ربما مساند ولكنه لم يتمكن من المساهمة النشطة خوفا أو تحسبا، كما لا يُعرف توجهه السياسي على وجه الدقة. بمعنى آخر إن هذه الطليعة العربية ليست بالضرورة سوف تحصد نتائج ربيع العرب كما تشتهي، فهناك قطاعات واسعة من الجمهور سيكون لها رأي ربما مختلف في حال بسط صناديق الانتخاب في القريب.

موقف الطليعة العربية المتفائلة يُذكر المتابع بموقف مشابه آخر في التجربة الغربية. فقد تفاءلت الطليعة المثقفة الألمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد هزيمة تحالف ألمانيا مع الإمبراطورية المجرية النمساوية ضد الحلفاء، ظنت الطليعة الألمانية، أن ألمانيا سوف تتوجه إلى الديمقراطية الغربية ولن تحيد عنها، التي هي نتاج لصراع طويل في أوروبا وتراكم معرفي قاد إلى تجربة ديمقراطية في كل من فرنسا وبريطانيا التي تمثل التطور العقلاني لقرون ثلاثة سابقة.

حساب الحقل لم ينطبق على حساب البيدر لدى الطليعة الألمانية وقتها، وأخذ الأمر قرابة ثلاثة عقود وديكتاتورية شرسة قادها الرايخ الثالث ومخابرات ادولف هتلر، وحرب ضروس أخرى، هي الحرب العالمية الثانية، حتى يتحقق حلم الطليعة الألمانية في الوصول إلى ديمقراطية، تأخذ البلاد إلى سكة التنمية والانخراط في عالم حديث.

الفكرة هنا أنه ليس كل حراك اجتماعي سياسي، هو حراكا ابتكاريا يصب في المجرى العام لمسيرة البشرية المتحضرة. الطليعة العربية التي تحركت ضد الأنظمة السابقة وحّدها الكُره العميق لما قامت به الأنظمة من تسلط فج، وكانت هذه الطليعة مُوحدة لما تريد تغييره، ولكنها ليست مُوحدة لما تريد بناءه، عدا كونها طليعة فليس بالضرورة أن تكون الجماهير الغفيرة القادمة وراءها تتمتع بنفس الوعي!

تتناثر بيننا مقولات مفتوحة، تعالوا نجرب، أمامنا التجربة التركية القريبة، طبعا دون أن ندرسها دراسة عميقة، أو التجربة الهندية، والبعض يذهب إلى التجربة الأوروبية، إلا أن كل ذلك ليس مضمونا نجاحه، أخذا بعين الاعتبار المكون التاريخي والثقافي ومسيرة طويلة من الحكم المطلق في تاريخ العرب الحديث. لقد كان لدى الطليعة العربية الخطة ألف، ولم يأت ببالها الخطة باء. بل إن الحديث عن الخطة باء مكروه وغير مستحب.

تعالوا ننظر إلى ما يحدث على الأرض، هذه نخبة تونس منقسمة، تراوح في أكثر من اتجاه، وهذه نخبة اليمن لا تعرف إلى أين سيأخذها الحراك، بين منفى مؤقت للرئيس وعودة إلى طرح خيار البقاء دون الحكم، إلى خيار المحاكمة، وربما خيار الحرب الأهلية. أما المحروسة مصر، فهي الآن تراوح في المكان. البعض يتحدث عن نفس سيناريو العسكر عام 1952 مع بعض التعديلات التي يتطلبها الزمن، وقتها قالت الطليعة العسكرية بعد أن وصلت إلى الحكم، إنها سوف تكون مؤقتة، لن تؤسس حزبا سياسيا، وسيعود الحكم - بعد تطهيره - إلى المدنيين! ولم يُعرف من وقتها أي حكم مدني خلال الستة عقود الماضية، فقط عسكر في بدلات حديثة. البعض يقول إن مثل هذا السيناريو مع شيء من التعديلات التي يفرضها الظرف الدولي، سيكون هو الغالب. الخلافات لدى القيادات السياسية المصرية وبين النخبة أيضا ظاهرة للعيان ومفتوحة على كل الاحتمالات.

نحن الآن جميعا في مرحلة (ما بعد السكرة) التي قيل إن فكرتها من امرؤ القيس، اليوم خمر وغدا أمر، وهي مرحلة عصيبة، لم يتبين الأمر فيها، تفتقد إلى الحراك الابتكاري وتتخاطفها الشعارات القديمة. ربما صحيح أن عوامل جديدة قد أثرت فيها على سبيل المثال لا الحصر، انصهار الزمان والمكان في بوتقة واحدة، بسبب وسائل الاتصال الحديثة والتعرض لجرعات عالية من هبوب العولمة، وانحسار التأثير الفكري لعالم الخمسينات وما بعدها، وخلو مفهوم الطليعة الجديدة من الآيديولوجيا الصلبة.

كل ذلك عوامل قد تساعد على ابتكار الخطة باء ولكن يبدو أن الكثيرين ما زالوا مأخوذين بغيبوبة السكرة.

آخر الكلام

بمجرد أن قامت بعض الاضطرابات في مدينة لندن، جاءت أولى خطوات الشجب من المعارضة البريطانية، لم تنتهز الفرصة لبيان خلل في سياسات الحكومة، لأن الشأن وطني قبل أن يكون حزبيا. على الصعيد العربي، رغم أن ما قامت به منظمة التحرير يعني كل الفلسطينيين، فإنه حتى صورة وخطاب محمود عباس لم تعرفها شوارع غزة، هذا غير حملة الشجب والتخوين، ويقال لنا إن ديمقراطية عربية قادمة!!