دبلوماسية دفتر الشيكات!

TT

دفتر الشيكات إحدى الأدوات الفعالة جدا في الدبلوماسية السرية في الشرق الأوسط، الجميع على علم به، الجميع يتحدث عنه في المجالس الخاصة، ولا يصرح به علنا، وبه تشترى الولاءات والمواقف السياسية، وفي أحيان كثيرة تحل به الأزمات وتتغير المواقف، الجميع اشترك فيه بشكل أو آخر، فقراء وأغنياء، حسب الإمكانيات، وحسب الأدوار.

هو جزء من ممارسات طويلة في الحروب المخفية الإقليمية على النفوذ والصراعات الإقليمية، وتمارسه أطراف إقليمية عربية وغير عربية في دول الأزمات أو بؤر الأزمات في المنطقة لتعزيز نفوذها، وكان يشكل إحدى العلامات السيئة لظاهرة غير صحية في الواقع العربي طوال عقود، قد يكون حل أزمات أو سهل مواقف، لكنه كان أيضا سببا في تأجيج أزمات سياسية وحروب أهلية وصراعات دامية. لم يكن أبدا عاملا في استقرار دائم أو علاقات صحية طويلة الأجل، فهذه ليست طبيعة هذه العلاقة، إلا لو استخدم هذا الدفتر علانية وبشفافية في تمويل مشروعات حقيقية لصالح تنمية مستدامة وروابط راسخة.

لذلك لم يكن غريبا أنه بعد سقوط نظام وانكشاف وثائقه السرية أن تظهر بعض الفضائح أو على الأقل علامات الاستفهام والتعجب عن من يأخذ ماذا وعلاقة هذا بذاك، كما حدث بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق، وانكشاف قائمة المستفيدين الحنجوريين، وهناك هذه الأيام أحاديث عن شيء مشابه في وثائق نظام القذافي، وظهور قوائم مستفيدين ومتمولين إلى آخره، وحتى النظام نفسه قام باعتراف ضمني في أواخر أيامه بما يشبه عملية ابتزاز للرئيس الفرنسي بالحديث عن مساعدته خلال حملته الانتخابية رغم معرفته بأن النظام يقع تحت طائلة العقوبات الدولية.

المهم، هذه تفاصيل لا يجب الوقوف كثيرا أمامها بقدر تحليل الظاهرة وأسباب نشوئها وآثارها في الإفساد السياسي، وما إذا كنا نحتاج إلى قواعد جديدة في التعاملات خاصة في الدول التي شهدت ثورات وانتفاضات رغبةً في تغيير واقعها وتستعد لاستحقاقات سياسية ودستورية.

أهمية هذا الحديث هو أننا إذا كنا حقيقة أمام رغبة تغيير حقيقية وتصحيح في مسار كان يبدو أنه في السنوات الأخيرة لا يقود إلى شيء سوى الهاوية مع حالة الترهل التي صاحبتها مظاهر فساد بدا إلى أي مدى أنها أزعجت الناس، فإنه يتعين أن يكون التمويل السياسي شفافا وواضحا للجميع حتى تنتظم الممارسة وتختفي ظواهر مثل شراء الأصوات إلى آخره.

والمقصود بهذا أنه في الدول التي تغير فيها النظام مثل مصر وتونس وليبيا، أو التي يتوقع أن يحدث فيها ذلك مثل سوريا واليمن، فإن قوى التغيير السياسية وهي تؤسس للمستقبل وشكل النظام السياسي سواء من خلال دساتير أو قوانين سياسية جديدة يتوجب عليها أن تفكر في تقنين وتنظيم عملية التمويل السياسي.

ففي هذه الدول الواضح أن هناك اتفاقا بين قوى التغيير السياسي على الرغبة في مجتمعات قائمة على حرية تشكيل الأحزاب والانتخابات بمختلف أشكالها لتنظيم عملية تداول السلطة وحرية الإعلام وإنشاء مؤسساته، وبدون وجود قوانين تنظم عملية التمويل وتصر على الإعلان عن مصادره، وميزانيات مشهرة للأحزاب وأصحاب الحملات الانتخابية، فإن الباب سيكون مفتوحا للعودة إلى الإفساد عن طريق المال السياسي. كما أن مثل هذه القوانين ستضع حدا أو على الأقل قيودا على دخول أموال من الخارج لتمويل حملات أو مرشحين معينين.