الديمقراطية لا تبنى باعتماد قوانين وتعليمات الاستبداد

TT

كان العراق على مدى التاريخ حلبة للصراعات والاحتلالات من قبل الكثير من الإمبراطوريات، التي كانت تعيّن لها في بغداد حاكما أجنبيا تلو آخر دون أن يكون للشعب حق إبداء الرأي في من سيحكمهم، ولم تكن قرارات هذه القوى المستعمرة تحسب أي حساب لحقوق وواجبات الشعب ولا لتكويناته القومية الدينية والمذهبية... إلخ، ولم يكن للشعب القدرة على التعبير عن طموحاته في المسائل التي تخص أموره السياسية والمعيشية.. واستمرت هذه الحال حتى سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ووضع العراق تحت الانتداب البريطاني.

ولم يختلف الأمر كثيرا عند تأسيس المملكة العراقية بداية الثلاثينات من القرن الماضي، ولا حتى بعد سقوطها ونشوء الحكومات الديكتاتورية التي وصلت إلى الحكم بالانقلابات الدامية وقوة السلاح.. فلم يفسح المجال للشعب العراقي بالمشاركة في الحكم وصنع القرارات التي تهم مصيره السياسي والاقتصادي، ما أدى إلى ضعف الشعور بالانتماء الوطني لدى الفرد العراقي وتراجع إيمانه بدوره في المساهمة في بناء مؤسسات الدولة.

وصلت حالة الاستبداد والديكتاتورية إلى ذروتها في فترة حكم صدام حسين حتى أصبحت البلاد حكرا عليه وعلى قراراته الانفرادية الهوجاء التي دفعت بالعراق إلى أن يخوض غمار حرب عقيمة لثماني سنوات أراقت الكثير من الدماء وخلفت أعدادا كبيرة من المعاقين والأرامل واليتامى، ولم يألُ النظام القمعي جهدا في ممارسة أبشع أنواع الاضطهاد والتعسف وحملات الإعدام ضد أكثرية الشعب العراقي، وخصوصا الشعب الكردي من خلال جرائم الأنفال وضرب الآمنين بالأسلحة الكيماوية في كردستان العراق، وكذلك عملياته الوحشية في مناطق العراق الجنوبية التي وصلت حد القصف بالمدافع الثقيلة، ما أدى إلى تعطيل الطاقة البشرية والخدمية الهائلة وتدميرها بدلا من استغلالها في برامج التنمية والوصول بالعراق إلى مصاف الدول المتقدمة.

ولم يكتفِ نظام الرجل الواحد بذلك، بل غامر بالدخول في حربين أخريين ومواجهة أكبر تحالف دولي، وفرض عليه حصار اقتصادي شامل لأكثر من اثنتي عشرة سنة، أدى إلى تحطيم كامل للبنى التحتية والخدمات وانهيار الاقتصاد والدينار العراقي.. نتيجة لذلك فإن فرص العمل الشحيحة أرغمت العراقيين على أن يبحثوا عن لقمة العيش في غير بلدهم ولو على حساب كرامتهم الشخصية، للأسف الشديد.

وخلال فترة حكمه البائد وجّه صدام كل موارد البلاد المعتمدة على بيع النفط إلى شراء وتصنيع السلاح وعسكرة المجتمع، وأهمل القطاعات التنموية والعلمية والثقافية، كما شمل إهماله شريحة العلماء والكفاءات والنخب المثقفة، وشهدت البلاد تراجعا متسارعا في مجالات الصحة والبيئة والمياه والاتصالات والتربية والتعليم، فكثرت المشكلات وتعقدت الأمور أكثر وارتفعت نسب البطالة والجريمة، وانتهى العراق إلى أن يتخلف عن ركب التطور العالمي ويعيش عزلة شبه تامة أدت إلى تغييرات اجتماعية وثقافية واقتصادية خطيرة انعكست سلبا على الواقع الخدمي لكل المجالات الحيوية في حياة الإنسان العراقي، وأضعفت البلد سياسيا واقتصاديا وخلقت فجوة كبيرة بينه وبين المجتمع الدولي، ولم تعد دول كثيرة تأخذ في حسبانها العراق كدولة قوية مستقلة ذات سيادة، فزادت تدخلاتها في شؤونه الداخلية وبالأخص الدول الإقليمية.

إضافة إلى ما سبق فإن تغيير النظام عام 2003 وما رافقه من بعض الحسابات الأميركية الخاطئة (باعتراف المسؤولين الأميركيين) أنتجت مشكلات جمة وكبيرة، ومنها من الناحية السياسية، مثلا، التدخلات الحزبية والطائفية في عملية بناء مفاصل الدولة - بعد التغيير - التي أدت إلى الإتيان بأشخاص غير أكفاء إلى مناصب مهمة تشترط إدارتها وجود أصحاب الاختصاص ذوي الخبرة ممن يستطيعون قيادة تلك المؤسسات بكل علمية ومهنية وعدم الاستفادة من المؤسسات الاختصاصية والاستشارية المحلية والدولية بتقديم وتخطيط الإدارة والاقتصاد والتنمية الفعلية، وكذلك رعاية التعليم والثقافة والإبداع بكل أشكاله والحث على انتقاء الكتاب وتشجيع التعليم كعامل مهم وأساس في بناء الإنسان المتحضر ونماء وعيه الجمعي في أهمية الوطن والمواطنة.

ولا يمكن بأي حال من الأحوال تنفيذ كل ما سبق دون دراسة كاملة وتخطيط جيد، إما عن طريق المشاريع الحكومية وإما الاستثمار ومتابعة تنفيذ تلك المشاريع متابعة فنية جدية.. وفي كلتا الحالتين فالعراق بحاجة جدية إلى إعادة النظر في القوانين والتعليمات الحكومية الخدمية والتنموية، فبعضها قديم جدا ومرتبط بنظام مركزي واستبدادي غير متطور، وبعضها الآخر يرجع إلى عهد الحكومات السابقة والنظم الديكتاتورية التي حكمت العراق ولا تتلاءم بتاتا مع الوضع الجديد.. ومع التطور الحاصل في جميع المجالات فنحن بحاجة إلى تغيير وتحسين القوانين والتعليمات، وخصوصا ما يتعلق بالأمور السياسية والاجتماعية التي تخص القوميات والديانات، وكذلك الإجراءات الإدارية والمالية في الدولة من معاملات البنوك وخطابات الضمان والتحويلات، وكذلك ما يتعلق بالنظام الضريبي وإدارة الموارد المالية وقوانين الاستثمار... إلخ، فكلها تحتاج إلى تحديث، وليس جديدا أن نقول إن قسما من هذه التعليمات التنفيذية الموجودة في مؤسسات الدولة قد عرقل الكثير من المشاريع وتحسين الخدمات وسبب لها التأخير في الإنجاز، كما أن هذه التعليمات هي بوابة لاستشراء التفرقة والفساد المالي والإداري.

ولا يخفى أن أحد أهم المطالب العامة الوطنية هو التركيز على موضوع الاستثمار والاعتماد عليه كعامل فعال في عملية الإعمار من خلال استقدام رؤوس الأموال الكبيرة، وعدم الاكتفاء بما توفره الدولة من أموال تشغيلية لا تكاد تسد جزءا بسيطا من حاجة البلاد الفعلية من الخدمات، هذا وبالتزامن مع تحسين صناعة النفط ووضع الخطط الكفيلة برفع إنتاجه كي نضمن أكبر قدر ممكن من الموارد المالية لخزينة الدولة، وإيجاد حلول استراتيجية لمشكلة التنمية والزراعة والطاقة بالابتعاد عن الحلول الوقتية، وذلك ببناء محطات كبيرة تغني المواطن عن المولدات الأهلية التي أصبحت تشكل له عبئا ماليا مثلما تشكل خطرا بيئيا ببعثها الغازات السامة.

ومن الضرورة بمكان الاهتمام الجاد بمسألة المياه والزراعة والبحث عن حلول ناجعة لقضية تقاسم المياه مع دول المنبع والوصول معها إلى اتفاقيات نهائية وحل جميع مشكلات الحدود العالقة منذ زمن بعيد. وكذلك من المطالب الجماهيرية الضرورية تحسين واقع التعليم، وذلك بوضع مناهج دراسية متطورة تواكب التقدم الحاصل في أساليب التدريس في الدول المجاورة على الأقل، وكذلك النهوض بالواقع الصحي والقيام بمسؤولية تحسين أداء المستشفيات والمستوصفات الصحية وتوفير الدواء في المستشفيات والصيدليات العامة والخاصة، والقيام بثورة في مجال السكن والقضاء على هذه المشكلة المتجذرة والمتفاقمة عن طريق بناء وحدات سكنية واطئة الكلفة لفئات الشعب المختلفة حسب تصاميم ومخططات توضع من قبل مستشارين ذوي كفاءة وتجربة تراعي تطور المدن ومعدلات نمو السكان والخدمات فيها.

ويمكن، إجمالا، أن نشير إلى أن أهم ما يحتاج إليه العراق في المرحلة الراهنة هو الآتي:

- التخطيط الاستراتيجي في بناء المشاريع العملاقة والاستفادة القصوى من الشركات الاستشارية ذات الكفاءة وصاحبة التجربة، إضافة إلى الاستفادة من الخبرة المحلية.

- محاربة الفساد بكل أشكاله وعرض نتائج التحقيقات في قضايا الفساد على الرأي العام وعدم التستر على المفسدين مهما كانت مرجعيتهم.

- تشجيع الكفاءات العراقية وبالأخص المهاجرة منها واستقدامها من دول المهجر، وذلك بتقديم حوافز مجزية وتأمين حياة كريمة لهم ولعائلاتهم.

- العمل على إحياء الشعور بالانتماء الوطني وتغليب مصلحة البلاد العليا على المصالح الفردية والحزبية والمذهبية.

- تحقيق العدالة الاجتماعية في توزيع فرص العمل والرواتب، وكذلك إنجاز معاملات المواطنين بسرعة دون الدخول في دوامة الروتين، وهذا يتطلب من الموظفين وعيا والتزاما بأوقات الدوام الرسمي واستثمار وقت مؤسسات الدولة لتنفيذ برامج الخدمات والتنمية وتمشية أمور المواطنين بحس وطني عالٍ.

- تقوية مؤسسات الدولة وعدم فسح المجال لاستغلالها من قبل أي جهة كانت، والتأكيد على أن واجب تلك المؤسسات هو تقديم الخدمات لكل المواطنين دون تمييز.

- العمل على تقوية النهج الديمقراطي في البلد وعدم فسح المجال لكل أشكال الصراعات على المناصب والمكاسب حزبية كانت أو شخصية.

- العمل الجاد على تطبيق الخطط التنموية من أجل تقديم أفضل الخدمات للمواطنين، ولا يتم ذلك إلا عبر إدارات ذات كفاءة تدير مفاصل الدولة بكل شفافية، خصوصا وأن العراق لديه من الإمكانيات المادية والبشرية والموارد الطبيعية ما يمكنه من إنجاز تلك الخطط في وقت قياسي.

- القيام بإصلاحات تشريعية ومؤسساتية شاملة ومراجعة دقيقة للكم الهائل من القوانين الروتينية القديمة التي لا تساير تطور الفلسفة السياسية والاقتصادية الجديدة للبلد، ولا تنسجم مع متطلبات حركة الاقتصاد العالمي الجديد من نواحٍ كثيرة، لعل أهمها القوانين الخاصة بالاستثمار وما يلزمها من إدخال تقنيات مصرفية حديثة تسهل حركة رؤوس الأموال من أجل إيجاد بيئة عمل حقيقة تساعد على تطوير البنية الأساسية للاقتصاد العراقي وتنمية النشاط التجاري، وتؤدي إلى إيجاد فرص جديدة للعمل وتساهم في القضاء على البطالة.

ومعلوم أن ما أوردناه سابقا لا يمثل كل الطموح العراقي في رؤية عراق ديمقراطي جديد ينعم بخيراته على أحسن الوجوه، ولكنه يمثل الحد الأدنى لما يجب القيام به وبأسرع وقت ممكن لأجل حاضر العراقيين ومستقبلهم.

* وزير عراقي سابق