خديعة الأحلام الكبرى!

TT

يقال خذ حذرك من أحلامك، فربما تتحقق؛ كما يقال في صيغة أخرى خذ حذرك مما تتمنى وتبغي فقد يتحقق ما تتمناه وما تبتغيه. وحينما قيل ذلك لم يكن تلاعبا بالألفاظ، أو أنه إعادة مرنة لتعبير لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع؛ وإنما هو تحذير من المبالغة، وتصور أن فكرة ما أو حالة بعينها سوف تقدم حلا لكل المشكلات أو فكا لكل العقد. فمع كل وضع تأتي تعقيداته غير المتوقعة، وعندما تعلمنا في مقاعد دراسة السياسة، كان التحذير دائما ليس فقط مما هو غير متوقع أو مفاجئ، وإنما من النتائج التي لم يكن أحد لديه النية للإتيان بها.

كل ذلك ليس للتحذير من الأمنيات الكثيرة التي قد ترتبط بقرار الأمم المتحدة الخاص بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، كما أنه ليس نوعا من الأخذ بالأحوط فيما إذا كان الربيع العربي قد يفصح عن رياح خماسين ساخنة، وإنما حالة صادفتني أثناء وجودي في الولايات المتحدة، بدت لي تستحق الكتابة بحثا عن الحكمة والموعظة.

بداية الحكاية كانت مع بداية إدارة باراك أوباما التي كانت درامية ومثيرة بقدر ما طرحت من أحلام وآمال في كل اتجاه، من السلام في العالم، إلى حل مشكلات العراق وأفغانستان، ومن يعلم.. فربما حتى يحل الصراع العربي - الإسرائيلي. وما زالت ترن في أذني كلماته في جامعة القاهرة في يونيو (حزيران) 2009 وهي تبشر بحل العقد والمشكلات ونهاية صراع الحضارات. وكان ذلك ما عرفناه، ولكن الليبراليين في أميركا كانوا قد حملوا أوباما معضلة الطاقة في أميركا، وكتب توماس فريدمان في الـ«نيويورك تايمز» عشرات المقالات حول تخلص أميركا من الاعتماد على البترول العربي الذي يولد المشكلات والصداع، عن طريق قفزة تكنولوجية جبارة في مجال «الطاقة البديلة» و«المتجددة» أيضا. هنا تضرب أميركا عشرات العصافير بحجر واحد، فهي تتخلص من الاعتماد على الشرق الأوسط، ولكنها، وهو الأهم، تحقق ما برعت أميركا في عمله، ولا تستطيعه لا الصين ولا روسيا ولا حتى حلفاؤها الأوروبيين، وهو تحقيق المخترعات الجديدة التي لن يسبقها إليها أحد. وكما قيل إن الصين تستطيع أن تنمو وتنتج ما شاء لها النمو والإنتاج، ولكنها بنظامها وفكرها لا تستطيع إنتاج «غوغل» واحد مما أنتجته أميركا، أو ترسل مركبة فضائية لكي تستكشف كوكب المريخ.

هذه المرة فإن «غوغل» وكوكب المريخ هما الطاقة الخضراء التي تجعل أميركا، ومن بعدها العالم الذي سوف يشتري التكنولوجيا الأميركية، نظيفا ونقيا وعفيفا وطاهرا لا تلوثه مواد كربونية تأتي من الفحم والنفط. ولا يوجد ما يستدعي - وسط المخاطر الكثيرة - ما يتطلب اللجوء إلى الطاقة النووية. الطاقة البديلة فوق كل ذلك سوف تحل لأميركا أهم مشاكلها الآن وهي البطالة، فمشاريعها كثيفة العمالة عالية الموهبة، نقية السريرة ولطيفة المعشر.

هل توجد أحلام أكثر من ذلك؟ وهل توجد رغبات وتمنيات بمثل هذه الحلاوة والطلاوة في مكان آخر؟ وتمضي القصة، فقد وصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض، وهناك وجد الوقت مناسبا للأحلام العظمى والحلول السحرية، فالأزمة الاقتصادية حكمت، والعبرة بالنية التي وجدت أن تقديم محفزات من القروض والمنح تصل إلى ثلاثة أرباع تريليون دولار، يمكنها أن تحرك الاقتصاد كله إذا ما توافرت الشروط التي تفرض على من يأخذ الحافز أن يكون مقدما لتكنولوجيا جديدة خضراء ونظيفة، وفوق ذلك تقوم بتشغيل عمالة كثيرة.

هنا جاءت إلى الصورة شركة «سوليندرا»، وهي شركة تعمل في مجال الطاقة الشمسية، وتنطبق عليها كل الشروط المنوه بها من قبل، فقد كانت «سوليندرا» تستحوذ على تكنولوجيا جديدة لا تعتمد على «السليكون» في تخزين الطاقة من الشمس، كما هو شائع لدى شركات الطاقة الشمسية الأخرى في العالم. ويمضي الحلم في ملذاته المشرقة في أن الشركة ما إن تحصل على أموالها فإنها سوف تخترق أسواق العالم، ومن أجل ذلك سوف تقوم بتشغيل 65 ألف عامل. ومع كل هذه المواصفات، والحلم في طريقه إلى التحقيق قدمت الحكومة الأميركية 528 مليون دولار، وفي مصدر آخر قيل 535 مليون دولار. الفرق ليس مهما على أي حال، ولكن المهم هو أن الشركة بمجرد حصولها على المبلغ تقدمت بطلب آخر إلى البيت الأبيض، أن يأتي باراك أوباما لزيارة الشركة لكى يبارك أحلامه وتمنياته؛ وفي نفس الوقت تقدمت بطلب إلى الحكومة الأميركية بطلب قرض آخر يتجاوز 300 مليون دولار. وبالفعل ذهب أوباما إلى الشركة وسط دعاية صاخبة حول التكنولوجيا الجديدة وتشغيل العمال. ولكن بعد أن انتهت الزيارة وطلع الصباح لم يمض عام إلا وكانت شركة «سوليندرا» في طريقها إلى الإفلاس، وبدلا من تشغيل عمال جدد كانت الشركة تتخلص من عمالها القدامى، حتى أفلست الشركة ولم يكن بها من العاملين إلا ثلاثة آلاف عامل فقط لا غير.

قامت الدنيا وقعدت بالطبع في أميركا، والموضوع موضع التحقيق في الكونغرس وأمام القضاء، وداخل الحملات الانتخابية أيضا. ومن دون الدخول فيما إذا كانت الموضوع من أوله إلى آخره كان قضية نصب برعت فيها شركات أميركية، أو أن المسألة برمتها كانت اقتصادية، حيث نجحت شركات الطاقة الشمسية المنافسة في إنتاج أنواع رخيصة من السليكون تستطيع أن تعطي نفس النتائج التي تعطيها شركة «سوليندرا» وأكثر، فانهارت الشركة لا أكثر ولا أقل، ومعها أحلام وتمنيات ورغبات لم يكن على أحد أن يتمنى أبدا أن تتحقق.

ولكنها تحققت لكي تعطينا دروسا لم يكن ممكنا أن نتعلمها لولا ما جرى، وهو أنه لا يوجد حلم أو رغبة أو أمنية لو تحققت فإنها سوف تغير العالم أو الدنيا، ومن بين ملايين الأحلام فإن القلة منها هي التي ترى النور. وما يأخذ الإنسانية بعيدا لا يوجد إلا العمل الشاق في وضح النهار، بينما عيون الإنسان مفتوحة حتى آخرها. وبالطبع فإن أيا منهما - الأحلام والحقائق والواقع - ليس بديلا للآخر بالضرورة، ولكن المهم أن لا تذهب بنا الأحلام بعيدا، سواء كانت هذه الأحلام لها علاقة بالربيع العربي، أو بشركة «سوليندرا»، أو حتى بالدولة الفلسطينية.

ولكن، واللهم لا شماتة، الدرس الأكبر كان عن باراك أوباما ذاته، الذي كان مجرد حزمة من الأحلام، ركب عليها أصحاب أحلام أخرى، وإذا بالفترة الرئاسية الأولى تذهب والرجل لا ينتج لا طاقة نظيفة، ولا يحقق سلاما، ولا حتى يمنع حربا. وعندما احتج الرجل بأنه جاء إلى السلطة فإذا هي مفلسة وعاجزة بفعل جورج بوش؛ أعجبني رد جولياني، عمدة نيويورك السابق، حينما قال إن ذلك صحيح، ولكن لهذا كان انتخاب رئيس جديد اسمه باراك أوباما، ولكنه لم يكن لديه أكثر من أحلام كثيرة!