وضاح خنفر.. الصحافي و«السياسي»

TT

قال نورمان ميلر (الصحافي الأميركي) مرة لمجلة «اسكواير» (1960): «متى ما لامست الصحيفة قصة، ضاعت الحقائق إلى الأبد». قد لا يعرف مقدار ما تعنيه هذه الكلمات في هذه المرحلة مثل الصحافي الفلسطيني وضاح خنفر، فما فتئ طوال الأسبوع الماضي يفند الأخبار والشائعات التي ربطت بين استقالته والكشف عن وثائق نشرتها «ويكيليكس» بخصوص اجتماعاته مع مسؤولين أجانب يمثلون الاستخبارات العسكرية الأميركية. خنفر، المدير العام السابق لشبكة «الجزيرة»، وجد نفسه هذه المرة مادة صحافية، ليس في الصحف فقط، بل على الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي التي أسهم في تطويرها وتعزيز دورها خلال عمله بـ«الجزيرة».

حكاية صعود خنفر الصحافي الشاب هي قصة نجاح مبكرة، حيث انضم إلى القناة في 1997 لتغطية الشؤون الأفريقية، ثم لم يلبث أن تحول إلى مراسل حربي في كل من أفغانستان والعراق، حتى تم تعيينه في 2003 مديرا للقناة في سن 35 عاما، ثم مديرا عاما لشبكة «الجزيرة» في 2006. لقد شهدت «الجزيرة» أثناء إدارته انتقادات واسعة لتغطياتها وللمحتوى الذي تقدمه، ولكن على المستوى الفني والإداري تمكن خنفر من تحقيق قفزات هائلة في تطوير القناة من محطة فضائية وحيدة إلى شبكة إخبارية تضم قنوات وخدمات متعددة. بيد أن صعود خنفر السريع، وبروز دوره كإداري نافذ، قد جلب إليه الكثير من الانتقادات المهنية والشخصية، فالبعض اعتبره شابا قليل الخبرة والتأهيل، بينما عاب عليه آخرون ميوله الآيديولوجية، وتقريبه للإسلاميين في إدارة القناة، وإعطاءهم النصيب الأكبر من التغطية الإخبارية كما كتبت مجلة «الإيكونومست» (24 سبتمبر «أيلول»).

لا شك أن استقالة خنفر ما كانت لتشغل الإعلام لو كانت المحطة التي نتحدث عنها أميركية أو أوروبية، فهناك - أي الصحافة الغربية - بالكاد يعرف العموم أسماء رؤساء التحرير أو مديري الشبكات التلفزيونية، حيث تنحصر أخبار كهذه في الأوساط الصحافية وعالم الأعمال، ولكن حالة «الجزيرة» تختلف بعض الشيء، لأننا لا نتحدث عن شبكة إعلامية أو تجارية فحسب، بل عن أداة سياسية مهمة ومؤثرة، وهنا جوهر المشكلة في الحقيقة. فالقناة هي طرف في السياسة الإقليمية وليست مجرد وسيلة محايدة لنقل الأخبار.

في معرض دفاعه عن نفسه صرح خنفر لقناة «الحوار» بأن محاولة الربط بين استقالته ووثائق «ويكيليكس» فاشلة، وأن التوقيت، واختيار الوثائق ذاتها، كان الغرض منهما استهدافه وقناة «الجزيرة»، نظرا للدور الفعال الذي تمارسه القناة في تغطية الربيع العربي، وكشف النقاب عن الممارسات الأميركية في العراق وأفغانستان. أما بخصوص لقاءاته، وورود اسمه أكثر من 420 مرة - على حد قوله - فإنها كانت لقاءات طبيعية بحكم منصبه، حيث كان بابه مفتوحا للدول والمؤسسات والرؤساء لمناقشة أداء «الجزيرة» وسماع الملاحظات.

ردود خنفر لا تختلف عن تصريحات السياسيين العرب، ودفاعهم عن التسريبات والاتهامات التي كانت «الجزيرة» دائما ما تحاصرهم بها، أي أن الصحافي الذي كان يبرر دور وسيلته الإعلامية في تناول القضايا السياسية بشفافية، قد تعرض للموقف ذاته الذي كان يتعرض له منتقدوه من السياسيين.

لقد تسلم كل من وضاح خنفر وعبد الرحمن الراشد رئاسة اثنتين من أهم القنوات الإخبارية العربية في وقت متقارب من عام 2003، وقد كان لكل منهما بصمته الواضحة على غرفة الأخبار، وتمكنا من التأثير على الملايين من العرب والأجانب في صالونات بيوتهم، فأي ثقافة إعلامية استطاع كل منهما تثبيتها في الإعلام العربي؟ ليس بوسعنا تقييم التجربتين هنا، ولكن يمكننا ملاحظة أن تجربتيهما على الرغم من اختلافهما السياسي والآيديولوجي كانتا متقاربتين إلى حد كبير في ما يتعلق برؤيتيهما لدور الصحافة ومستقبلها، وما يجب أن تكون عليه واجبات وحقوق الصحافيين في المهنة.

كان لكل من «الجزيرة» و«العربية» خطها السياسي، وبالتالي قضاياها وشخوصها التي تحتفي بها، ويمكن أن يقال إن ميول الفرد الآيديولوجية وولاءاته السياسية والطائفية، بل وحتى المناطقية، كانت تفرض عليه مشاهدة إحدى الفضائيتين أو اللجوء إلى خيارات أخرى يحفل بها البث الفضائي. بيد أن المشترك بين كل من التجربتين هو تركيزهما على قضيتين: استقلالية الصحافة، وضرورة حماية حقوق الصحافيين.

هناك اختلافات شخصية بين قطبي الإعلام العربي، فوضاح خنفر معروف بحماسته الشديدة لموضوعاته، وانهماكه الشخصي في الدفاع عن صحافييه في ساعات أزمتهم، بينما يتميز عبد الرحمن الراشد بثقافته، وبصبره وهدوئه الشديدين، وقدرته على امتصاص الصدمات. ولكن الفروق الشخصية والآيديولوجية بين الرجلين لم تؤثر على نظرتيهما نحو ضرورة التبشير باستقلالية الإعلام، والذود عن حمى الصحافيين.

جيل الراشد أو خنفر نشأ في بيئة الصحافة العربية الرسمية المملوكة أو المقننة من قبل الدولة، وشهد عصر التحول نحو الإعلام الجديد بوسائله التقنية المتنوعة، والعابر للدول والمجتمعات. أمام تجربة البث اليومي المتواصل للأخبار، كان لزاما على هذه المؤسسات الجديدة أن تتخذ ثقافة إعلامية جديدة تختلف بالضرورة عن تلك التي كانت سائدة، وأن تستعين بخبرات إعلامية عربية تتلمذت في مؤسسات إعلامية غربية.

إنه من المثير للانتباه أن الخطاب الإعلامي الجديد الذي يركز على استقلالية الصحافة وسموها الأخلاقي، وتصوير الصحافيين بوصفهم أبطالا وشهداء للحقيقة، بدأ بالتبلور في محيط تقليدي، وبواسطة صحافيين تقليديين، فكانت النتيجة مشوشة، فمن جهة كانت المبالغة في التأكيد على استقلالية الإعلام غير واقعية، فالمؤسسات الإعلامية (الإخبارية) كانت ممولة أو مملوكة بشكل مباشر من قبل الدول، ثم إن بعض الصحافيين العرب كانوا يرغبون في تصوير أنفسهم كأنداد للسياسيين العرب، ولكنهم في الوقت ذاته لم يتمكنوا دائما من تقديم إعلام يلتزم الدقة، والبحث عن المعلومة، والموثوقية في ما يتعلق بالمصادر، ولذلك أصبح المشاهد مضطرا بعض الوقت إلى متابعة صحافي غير ملتزم بالحياد أو المصداقية. ولعل حركة التنقلات بين القناتين وغيرهما من القنوات الخاصة قد حفلت باستعراضات صحافية تتذرع بالمهنية والاستقلالية، بينما المشكلة شخصية في كثير من الحالات.

محاولة خلق خطاب إعلامي جديد لم يصاحبه نهوض حقيقي في مستوى الصحافيين، وطريقة ممارستهم لمهنتهم، ولهذا نشأ خطاب صحافي «مثالي» يريد الحصول على كل ما لدى الصحافة الغربية - على سبيل المثال - من مزايا، ولكنه لا يقدم في المقابل مستوى أفضل من الممارسة الصحافية. وعليه تحول هَمّ بعض الصحافيين الشباب إلى تحويل أنفسهم أبطالا لمعركة الشفافية وكشف الحقيقة مع خصومهم من الساسة، بحيث باتوا ناشطين لا صحافيين. هذا لا يعني تبرئة مجتمع السياسة في المنطقة العربية، فبعض السياسيين العرب لا يجيد التعامل مع الصحافة، فضلا عن أن يحترم وظيفتها ويساعدها على تحقيق دورها، ولكن كان من الطبيعي أن يتعامل السياسي مع الصحافة كخصم، إذا ما طرحت نفسها طرفا في الأزمة، لا وسيلة نقل محايدة. إذا كان الصحافي يكتفي بسماع رواية طرف - سواء كان المعارضة أو الحكومة - وعدم نقل رواية الطرف الآخر، أو إذا تحول إلى مناصرة قضايا بدلا من أن يكون مرآة للواقع، فإن دوره يتحول إلى أداة سياسية لا صحافة محايدة لنقل الحدث.

لا شك أن قناتي «الجزيرة» و«العربية» قد أسهمتا في رفع مستوى الممارسة الإعلامية في المنطقة، ورفعتا سقف النقاش والمعالجة لقضايا مهمة، وأثبتتا أن المؤسسات الإعلامية الرسمية لم تعد قادرة على استيعاب التحولات الاجتماعية والسياسية. ولكن في الوقت ذاته فإن التركيز على الصحافة بوصفها صاحبة رسالة سامية، وأن هناك دورا توعويا يراد منها، هو انعكاس لمدرسة واحدة في الصحافة الغربية. أما المدرسة الأخرى فتتعاطى مع الصحافة بوصفها أيضا وسيلة من وسائل التجارة والربحية. فالصحافيون في النهاية لا يعملون من دون مقابل، والمؤسسات التي توظفهم لها ملاك ومساهمون ينتظرون نتائجها المالية، لا بطولات صحافييها. هناك حاجة إلى أن تبلغ الصحافة العربية حالة من التوازن في ما يتعلق بتمييزها ما بين الاستقلالية من جهة، والربحية التجارية (الصحافة كصناعة) من جهة أخرى. من المهم أن يتصدى الصحافيون لقضايا تهمّ الجمهور، ولكنّ هناك حدا فاصلا ما بين الحياد الإعلامي والتحول نحو النشاط السياسي. الصحافيون ليسوا شياطين، كما أنهم ليسوا ملائكة. هم ينقلون الحدث بحسب قدرتهم، وللجمهـــور مسؤوليــــة الحكــم والتقييم.