من سد الذرائع إلى المشاركة السياسية!

TT

لا شك أن قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز هو قرار تاريخي بكل ما تعنيه الكلمة من مدلول؛ تاريخية القرار تكمن في تجاوزه لمسألة مجرد وجود المرأة في عضوية مجلس الشورى وقدرتها على الانتخاب في المجالس البلدية ليصل بالمرأة السعودية إلى الفاعلية التي كانت تستحقها، من هذه الزاوية يجب أن لا ينظر إلى القرار التاريخي من زاوية التكليف أو الأمر الملكي من أعلى بل كنقطة انطلاقة من واقع المرأة السعودية اليوم فهو أشبه بجائزة تميز ومكافأة سياسية على الاستحقاق والجدارة الذي حققته المرأة السعودية على أكثر من صعيد.

لنتذكر جيدا ثمن هذا الاستحقاق للمرأة السعودية حيث تشير كل الأرقام والإحصاءات إلى أن نسبة تعليم النساء السعوديات هي الأعلى في العالم العربي في مختلف التخصصات بعد أن كان في السابق حكرا على نشاطي التعليم والطب، لكنها تجاوزت ذلك بفضل التحديات الاقتصادية والنقلة النوعية التي عاشتها المملكة على مستوى التنمية بمفهومها الشامل والتي كان للمرأة منها نصيب كبير.

صحيح أن المشاركة في العمل السياسي لم تكن أحد تطلعات المرأة السعودية إلا أن ذلك لم يكن بسبب عدم الكفاءة بقدر وجود مفاهيم اجتماعية وثقافية كانت تشكل حجر عثرة بسبب الخطاب السائد في مرحلة الثمانينيات التي رافقت صعود خطابات أصولية ليس في المملكة فحسب بل في العالم العربي والإسلامي، حتى البلدان التي كانت المرأة فيها فاعلة سياسيا وفي سوق العمل حصل لها نوع من الانكماش بسبب غلبة ذلك الخطاب، ومع ذلك كانت هناك استثناءات أثبتت كفاءتها كان من بينها على سبيل المثال اختيار الدكتورة ثريا عبيد لرئاسة صندوق الأمم المتحدة للسكان والتي ابتدأ عملها في المنظمة منذ عام 1975.

منذ التحولات التي عاشتها المملكة عبر الانفتاح الاقتصادي نهاية السبعينيات الميلادية والمرأة تشارك بشكل فاعل في الاقتصاد المحلي. فلو أخذنا على سبيل المثال قطاع المصارف نرى أن ثمة الآلاف من الموظفات المدربات على العمل المصرفي واللواتي يعملن في قطاع البنوك منذ فترة طويلة وبكفاءة عالية، وفي القطاع الخاص لدينا أكثر من 1500 سيدة أعمال ممن يدرن أعمالهن التجارية وثرواتهن المالية بأنفسهن وبشكل مستقل.

هذه الصورة غائبة أو مغيبة بشكل كبير عن الإعلام الغربي وحتى بعض الإعلام العربي الذي لم يستطع التخلص من الصورة النمطية عن المرأة السعودية، لذا بدا له القرار مفاجئا، وبالتالي تم النظر إليه في إطار شكلي ضيق من خلال السؤال عن جدوى المشاركة في الانتخابات أو مجلس الشورى، بينما تم تجاهل كل التحولات الكبيرة على مستوى كفاءة المرأة السعودية لأدوار أبعد بكثير من مجرد وظائف خدمية في قطاعي الصحة والتعليم، هذا إذا ما أضفنا إلى تلك التحولات التي يمكن وصفها بكفاح فردي من المرأة السعودية كاستجابة طبيعية للتحديات الاقتصادية مسألة «الابتعاث» والتخصصات الجديدة التي بدأت تأخذ طريقها للعمل أو حتى الجامعات التي بدأت تطرح نفسها كمنافس قوي جدا لكل مخرجات التعليم بالخارج ككلية دار الحكمة وعفت وكلية إدارة الأعمال وجامعة الأمير سلطان وغيرها. إذن أين المشكلة؟ أعتقد أن المشكلة كانت وما زالت وستظل أزمة ثقافية واجتماعية أكثر من كونها استحقاقا سياسيا، وهو الأمر الذي لا يخص المشهد في السعودية بل يتجاوزه حتى في البلدان الخليجية وبعض البلدان العربية التي تحظى المرأة فيها بدعم من الأنظمة السياسية يكاد يقترب أحيانا من البروباغندا لكن المشاركة الحقيقية والفاعلة بالأرقام والإحصاءات ما زالت ضعيفة جدا. الأزمة في جذرها العميق هي أزمة «معوقات» ثقافية واجتماعية فيما يخص وضعية المرأة في مشهدنا العربي والمحلي، ولعل أقرب توصيف لها أنها ضرب من «أسلحة الهوية القلقة» يتم التلويح بها كلما هبت رياح التنمية والتغيير باتجاه المستقبل، وتتم تعبئة الرأي العام بشكل فجائعي عبر سياط الترهيب والمبالغة وحتى التشويه لمسلمات دينية فيما يخص تمكين النساء ودعمهن على اعتبار أنهن شقائق الرجال كما هو التوصيف في التراث الإسلامي. مصكوكة «سد الذرائع» المتنازع عليها بين المدارس الفقهية إحدى مفردات هذه المعلقة التي استنزفتنا طويلا رؤية وبحثا وجهدا، فالمتابع لهذه القضية في بعض الطروحات الصحافية العجلة والسجالات المتبادلة بين تيار حصار المرأة بدافع الحفاظ على هويتها وبين تيار المدافعين عن حقوقها وفق ضوابط شرعية واجتماعية عامة يرى كيف أن الطرفين أهملا تأصيل القواعد الكلية لحقوق المرأة كما يصفها الإسلام ليتم التركيز دائما على أمثلة ضيقة وتفصيلية «قيادة المرأة، الدمج، بيع المنتجات النسائية» فكثير من هذه الأمثلة إذا ما استثنينا أرقاما محدودة وهامشية ندرك مدى «ترفيتها» مقارنة بواقع المرأة الحقيقي وحاجاتها اليومية، فواقع المرأة في العالم الإسلامي والعربي متدنٍ جدا ورديء على المستوى الحقوقي العام، أي مدى التزام شرائح المجتمع تجاه حقوقها الفطرية والإنسانية التي كفلتها الأديان والقوانين. فكيف لو قارناه برحابة نظرة الإسلام في النصوص المؤسسة وليس في تطبيقات الفقهاء إلى المرأة وتطبيقات تلك النظرية في المجتمع النبوي خاصة، المجتمع الذي يفترض أنه أعطانا أمثلة إنسانية رائعة يحتذى بها.

ولعل مراجعة يسيرة لمدونات تراثنا الزاخر بالنظرة الإيجابية للمرأة تدلنا على مدى البون الشاسع بين نقاوة النظرة الإسلامية قبل أن يشوبها الكثير من التزوير والافتئات الذي لا يمكن تبريره بحال مهما تمسك المؤيدون لهذا الواقع الذي يهمش المرأة ويجعل فاعليتها في نهضة وطنها وأمتها وقف التنفيذ بسبب التخوف المرضي من الوصول لبعض النماذج الغربية المكرسة لمفهوم «تسليع المرأة» والتي تواجه الكثير من الشجب والإنكار داخل الأوساط الغربية ذاتها، ويمكن قراءة حالة الممانعة هذه لدى مواقف العديد من الجمعيات النسوية التي باتت ورقة رابحة في ضخ الوعي بكينونة المرأة خارج أقواس الاستبداد الذكوري الفكري كما الاجتماعي والذي تتجاذبه أطراف ليبرالية وإسلاموية بنفس الدرجة وإن في اتجاه معاكس.

ومن بين ركام هذه النزاعات الأيديولوجية النظرية التي لا تمس الواقع من بعيد أو قريب، ثمة أصوات عاقلة ومعتدلة يجب الإشادة بها، لا سيما بما تمثله من ثقل علمي واجتماعي يجعلنا نصفق عاليا لعقلانيتها في تناول ملف ملغوم بالمخاطر مثل ملف المرأة، ومن تلك الأصوات ما استوقفني طويلا باعتباره حركة نقدية تبعث على التفاؤل.

ويمكن القول إن الممارسة العملية لكثير من الأصوات المعتدلة في الخطاب الإسلامي - إن على مستوى المؤسسات الرسمية أو حتى بعض الأسماء اللامعة - ساهمت في تخفيف الاحتقان تجاه موضوعات المرأة.

مراجعة بسيطة لمدونات التراث الإسلامي الكبرى ولكثير من فتاوى وآراء العلماء المعاصرين ممن لم تمسهم نيران الأصولية تؤكد لنا أن ثمة «إسلاما مختطفا» كرم المرأة ومنحها حقوقها.

نحن بحاجة إلى إعطاء المرأة حقها الذي كفله لها الإسلام النبوي وليس الإسلام المختطف من قبل الجماعات المتطرفة أو التيارات الأصولية التي تمر بمرحلة ذبول وتراجعات وانشقاقات ضخمة حتى على مستوى القضايا الكبرى. نحن بحاجة إلى إيمان بحرية المرأة المسلمة التي دلت عليها النصوص وكفلتها الشريعة ذاتها.. وحين نستكمل هذا الشوط تأصيلا وممارسة يمكن أن نلوك هذا الترف في عراكنا الثقافي المحموم بين موقفي الـ«مع» والـ«ضد» اللذين أصبحا جزءا من الترف الفكري الذي لا يمس تحديات الواقع.

[email protected]