الله يمهل ولا يهمل

TT

المفكر والروائي والشاعر الفرنسي العظيم (فيكتور هوغو) من هو الذي لا يعرفه؟! لقد عرفته أول ما عرفته في أول مراحل دراستي الثانوية، وقرأت له رواية (البؤساء)، وتفاعلت وتقمصت وعشت أحداثها كما لو أنني كنت أحد بؤسائها.

ولا أعلم إلى الآن ما هو الذي (جدبني) - أي هبلني أو جننني - في ذلك الوقت المبكر من عمري الذي جعلني أقرأ مثلا رواية (الحرب والسلام) لتولستوي، أو (الجريمة والعقاب) لدستويفسكي - وهذا خطأ شنيع، على حسب رأي السياسي البريطاني الكبير (تشرشل)، أن يقرأ الإنسان في بدايات عمره الأعمال الكبيرة، لأنها مع الوقت سوف تذهب أدراج الرياح نظرا لتفكيره المحدود، وهو يعتقد وينصح أن يتدرج الإنسان في قراءاته حسب المراحل، من السهل والبسيط إلى الأعمق أو الأكثر تعقيدا، ولا أستبعد أن في اعتقاده هذا شيئا من الصواب، لأنني بعد أن وصلت إلى هذه المرحلة المتقدمة من العمر وجدت أنني قد انحدرت وأصبحت لا أقرأ، أو لا يستهويني من القراءات الآن غير السفاسف من الأمور أو القضايا، وأكبر دلالة أنني متتبع ومتعمق وباحث في هذه الأيام عن المراحل التي عاشتها الراقصة (تحية كاريوكا) منذ أن اشتغلت في مسرح (بديعة مصابني)، إلى أن لبست الحجاب وحجت إلى بيت الله، ومع الأسف فالناس مع الوقت يصعدون إلى فوق، وأنا أنحدر إلى أسفل سافلين، والغريب أنني، مع ذلك، متصالح مع نفسي ومبتهج، بل ومستمتع بما أعيشه، وكأنني ما زلت طفلا يمرح مع ألعابه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مرحلة خرف الشيخوخة تدق على الأبواب، فأهلا وسهلا - على شرط أن لا ينغص علي أحد حياتي، أو يخرّب ألعابي -

والذي دعاني لكتابة ما أكتبه الآن هو قراءتي لكتاب اسمه (المحبّة)، وهو عبارة عن اقتطاع مجموعة من الرسائل العاطفية المشبوبة التي كتبتها الممثلة الفرنسية (جولييت دروويه) للشاعر الذي بدأت به هذه المقالة (هوغو)، دون أن يعيرها هو أي اهتمام، أو يبادلها نفس المشاعر، وأخذني العجب عندما عرفت أن رسائلها له خلال خمسين عاما بلغت (18) ألف رسالة دون أن تتعب يدها، ولا يعرف التاريخ إخلاصا كإخلاصها، وماتت المسكينة في النهاية بحسرتها، وعندما علم الشاعر بموتها ما كان منه إلا أن يدعو لفيفا من أصدقائه لإحدى الحانات، ويخرج منها في الهزيع الأخير من الليل مترنحا إلى داره من شدّة السكر، وكان طوال الطريق يضحك ويغني بصوته الأجش، وكأن شيئا لم يكن.

غير أن الله يمهل ولا يهمل، وأتى انتقامه (لجولييت) من (هوغو) بابتلائه بابنته (أديل)، التي هامت بدورها غراما بملازم بالجيش البريطاني، وذهبت معه رغما عن إرادة والدها، إلى إحدى الجزر في المحيط الأطلسي، ثم انتقلا وعاشا ردحا من الزمن في (نيويورك)، وكانت طوال الوقت هي التي تصرف عليه من مالها، غير أن ذلك الملازم الوسيم الذي استقال من الجيش، زهد بها في النهاية بعد أن التفّت عليه الكثير من النساء، فهجرها وطردها، وأصيبت بصدمة عنيفة نذرت بعدها أن لا تتكلم مع أحد طوال بقية حياتها، وعادت مهزومة مكسورة إلى باريس، حاول والدها (هوغو) بعد ذلك أن يعيدها بشتى الوسائل إلى الحياة الطبيعية ويجعلها تتكلم، ولكن دون جدوى، وعاشت بعد ذلك عشرات الأعوام دون أن تنطق ببنت شفة واحدة، إلى أن ماتت صامتة عام (1915).

إنها مأساة تشبه الخيال، ولكن هذه هي الحياة.

[email protected]