بالعزيمة والمثابرة

TT

استمعت قبل أسابيع، واستمتعت في موسم حفلات «البرومناد» الموسيقية في لندن، للضرب على البيانو من العازف الصيني لانغ لانغ، بيد أن وراء هذا العازف الشاب حكاية بليغة جديرة بالاعتبار والكتابة عنها، وهو ما أفعله الآن. تجسم الحكاية هذا التفوق الرهيب لكل ما يسمى بدول النمور، اليابان والصين وكوريا الجنوبية وتايلاند وماليزيا، في كل الميادين. سموها بدول النمور لأنها وثبت وثبة النمر، وكان ذلك عندما كنا وما زلنا نائمين نومة القطط في شمس الربيع.

العزف على البيانو ليس من تراث الصين، ولكن من يريد أن يثب يتعلم كل شيء. لاحظت المعلمة أن هذا الطفل لانغ يحسن الضرب على مفاتيح البيانو، قالت ذلك لوالده، فكر الوالد القروي الفقير في الموضوع، وقال لنفسه: ربما يفتح الله علينا بتطوير هذه القدرة في ابننا. فتش عن معلم بيانو فلم يجد أحدا غير واحد في مدينة بعيدة، قرر الأب أن ينتقل مع ابنه إليها، عاشا عيشة الكفاف، وتركا الأم الفلاحة وراءهما لتمدهما بلقمة العيش من كسبها المحدود. جلس لانغ لامتحان الموسيقى ورسب، قال المعلم للوالد: ابنك لا يملك الموهبة الموسيقية. وفي يأسه واساه، التفت الأب لابنه وقال: تحملنا كل هذه المشقة من أجلك وخيبتنا، لم يبق لك إلا أن تذهب وتنتحر، وهو ما يفعله الفاشلون في دول النمور، وقبل أن يقدم على ذلك، ذهب لمعلم موسيقى آخر ليستشيره، استمع إليه وقال: لا تيأس، إن لك الموهبة وأكثر، وأنا أتكفل بك.

استأنف لانغ سعيه الذي أوصله في الأخير لهذه المكانة العالمية، وما زال في الخامسة والعشرين. سألوه لماذا تصطحب والدتك معك حيثما تذهب؟ قال: لأنني حرمت منها طوال دراستي في المدينة.

بهذه العزيمة والمثابرة أصبحت الصين هذه القوة الاقتصادية التي دخلت في نزال الآن مع أميركا، وسيكون ذلك صراعا مهيبا، لأن للأميركيين أيضا عزيمتهم ومثابرتهم.

رزق رجل أسود، المستر وليمز، بطفلتين، قال: كيف سأرتب أموري بفضلهما؟ راح يفكر ويمحص بكافة السبل، كان رجلا عماليا بسيطا، سمع أن بطلات كرة التنس يكسبن الملايين من مباراة واحدة، قال هيا بنا، لم تكن عنده أي فكرة عن اللعبة، فاستعار كتابا عنها، درسه بإمعان وكشف عن كل خبايا التنس، بدأ في تدريب هاتين الطفلتين، فينوس وسيرينا، وإعدادهما جسما وعقلا واستعدادا، ثم ألحقهما بمدرسة متخصصة في هذه الهواية أو الحرفة، لم يسمح لهما بالاختلاط والانشغال واللعب مع كائن من كان حتى وصلتا إلى مستوى البطولات العالمية. حلت ساعة الامتحان بالنزول إلى ساحة نادي ويمبلدون، أعز ساحات المباريات العالمية لهذه اللعبة، وفازت كلتاهما سنة بعد سنة، وكان من أظرف ما شهدته منهما أن قدر عليهما أن تلعب، قبل سنة، كل منهما ضد الأخرى، وكان نزالا رهيبا انتقل بالوالد من عامل بروليتاري بسيط إلى مليونير تخطب وده البنوك.

كل ذلك والقطط ما زالت نائمة تحلم وتنفخ وتشخر.