كيف «تتبخر» المليارات في إيران؟

TT

من سرق مليارات الدولارات في إيران؟ ومن هم هؤلاء السياسيون الانتهازيون الذين اختاروا توقيت الكشف عن هذا الكم من الفساد؟

كل سنة تفوح في إيران رائحة فساد كبير، ثم يطبق صمت وتدفن القضية. في الثاني عشر من الشهر الحالي قال حاكم البنك المركزي الإيراني، محمود بهماني، إن عملية الاحتيال جرت باستخدام قسائم ائتمان وهمية لشراء أصول تابعة لشركات إيرانية كبرى، بما في ذلك الشركات المملوكة للدولة. إحدى هذه الشركات شركة «خوزستان للحديد والصلب» وهي بين الأكبر في البلاد.

الكثير من هذه الشركات هي في أيدي رجال من الحرس الثوري، مثل رستم قاسمي الذي اختاره الرئيس الإيراني، محمود أحمدي نجاد، وزيرا للنفط في شهر يوليو (تموز) الماضي، بعدما طرد مسعود مير كاظمي في مايو (أيار) الماضي، لديه خلفية في الحرس الثوري، فهو برتبة جنرال قائد الفرع الاقتصادي في الحرس، ويدير «خاتم الأنبياء»، الشركة الاقتصادية القابضة للحرس الثوري، والموجودة بقوة في الصناعة النفطية، كما أنه والحرس يسيطرون على أصول كبيرة في القطاع الخاص أيضا.

المعروف أن المحسوبية منتشرة بقوة في صفوف النخبة من السياسيين ورجال الأعمال. ويبدو أن المتورطين في التزوير، منذ أكثر من عامين (يونيو/ حزيران 2009)، استفادوا من ثغرات واضحة في النظام المصرفي والقانوني في إيران، وتلقوا المساعدة من مصرفيين كبار في الحكومة، سمحوا بنقل الأموال، كما لو كانت القسائم حقيقية. أما الشخص الرئيسي المتهم باختلاس أموال بنحو 30 تريليون تومان أو 2.8 مليار دولار، فإنه أمير منصور اريا. هو ملياردير، ويملك الكثير من الشركات بما فيها شركات للاستثمار والتبادل التجاري، وشركات في قطاع المعادن، والبناء، والمياه، والتكنولوجيا، فضلا عن نادي «داماش» لكرة القدم.

إضافة إلى ذلك، هناك أدلة أخرى على الفساد المنتشر بين أوساط القيادة، فقد كشف جعفر قادري، مؤخرا، رئيس لجنة الميزانية في مجلس الشورى، عن أنه بتقدير المحكمة العليا لمراجعة الحسابات، فقد «اختفى» من عائدات النفط مبلغ بقيمة 28.5 مليار دولار، وهو جزء من الأموال المفروض أن تذهب لمشاريع لصالح الإيرانيين. هذا الأمر يشير ببساطة إلى تفاقم الوضع، ففي عام 2009، «اختفى» من الخزنة مبلغ 11.7 مليار دولار، وفي عام 2010 «تبخّر» مبلغ بقيمة 16.8 مليار دولار.

بعبارة أخرى، «تبخّر» ما لا يقل عن 20 في المائة من عائدات تصدير النفط ما بين عامي 2009 و2010، هذا وفقا للمعلومات الرسمية، ويرجح أن تكون النسبة الحقيقية أكبر بكثير.

مبالغ كبيرة من عائدات النفط يتم تحويلها لتمويل توسيع عمليات قوات القدس تحت قيادة الجنرال قاسم سليماني. والمعروف أن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، آية الله علي خامنئي، سمح لمثل هذه الأنشطة في وقت سابق من هذا العام، بالتحرك في مصر، في محاولة منه لاستغلال الوضع السياسي الجديد في جميع أنحاء العالم العربي.

وكان نائب محافظ البنك المركزي، حميد بور محمدي، لاحظ نقصا حرجا في الموارد البشرية في البنك، مما يجعلها عاجزة عن القيام بالإشراف المناسب على مصارف خاضعة لولايتها.

توقيت الكشف عن فضيحة أمير منصور اريا يعبر عن الأزمة العميقة داخل فريق المحافظين، والصراع على السلطة السياسية في وقت تحاول فصائل مختلفة إعادة تموضعها قبل انتخابات مجلس الشورى العام المقبل (12 مارس/ آذار). لكن الخلاف الأساسي هو بين الرئيس وأتباعه، من جهة، مقابل المحيطين بخامنئي. يتهم خامنئي «التيار المنحرف» المحيط بأحمدي نجاد، وهؤلاء يجسدهم رئيس مكتبه وصهره اسفنديار رحيم مشائي، بأنهم مشاركون في الفساد. وفي الأشهر الأخيرة سُجن عشرات المقربين من أحمدي نجاد ومشائي، بعدما حاول أحمدي نجاد أن يخرج بصلاحياته عن الحدود المقبولة لدى خامنئي.

والأمر الأكثر أهمية، هو أن خامنئي يعمل حثيثا على تقويض شرعية الرئيس، ومنذ أشهر يتحرك ابنه مجتبى خامنئي، بإذن منه للحد من تحركات أحمدي نجاد، والتخلص من «رئيس المنحرفين» مشائي، وليس من قبيل الصدفة أن وزير الاستخبارات، حيدر مصلحي، الذي حاول أحمدي نجاد التخلص منه، فثبّته خامنئي، يكون هو من كشف فضيحة الفساد المتهم بالمتورط فيها الرئيس.

هل القصة (الفساد) قديمة جدا؟ وهل تكون من بين الأسباب التي دفعت أحمدي نجاد للتخلص من مصلحي؟ الاثنان كانا على خلاف بعضهما مع بعض، لسلسلة من الأسباب، منها معالجة مصلحي لأنشطة المجندين في وزارة الاستخبارات، وأثارت هذه انتقاد مشائي، خصوصا فيما يتعلق بعملاء الاستخبارات الإيرانية في الشرق الأقصى. كذلك يضع أحمدي نجاد اللائمة على مصلحي شخصيا، لفشل الاستخبارات الإيرانية في تركيا، ما أدى إلى ارتباكات في صفوف الحرس الثوري، وقد أثيرت هذه القضية في وسائل الإعلام الإيرانية.

في المقابل، يحاول مصلحي الوصول إلى النهاية لمعرفة أين تبخرت مليارات الدولارات من عائدات النفط، ويشير بأصبع الاتهام إلى أحمدي نجاد. ويخشى نجاد من مصلحي الذي هو عضو في المجلس الأعلى للنقد والائتمان، أن يلطخ سمعته فيما يتعلق بالفساد المالي، ويكشف، كما كان يفعل، عن تورط حلفائه المقربين.

خصوم الرئيس في مجلس الشورى استخدموا بالفعل هذه القضية لإدانة «المنحرفين»، وهذا انتقاد واضح لأحمدي نجاد، وقد استدعوا وزير المال، شمس الدين حسيني، وحاكم البنك المركزي، للاستجواب من أجل مواصلة انتقاد نجاد.

من الواضح أن خصوم أحمدي نجاد السياسيين يريدون وضع حد للدعم له وتهميشه، ولا يبدو أن الخلافات شخصية فقط، فالخلاف ينعكس على ما يتعلق ببرنامج إيران النووي. ففي الفترة الأخيرة تعرض الكشف عن العالم الإيراني مجتبى داداش نياجاد، ودوره في تطوير الجانب العسكري من المشروع الإيراني، لانتقادات حادة من أحمدي نجاد ومستشاريه المقربين، وحسب المعلومات التي ظهرت، فقد عمل نياجاد مع داريوش رضائي نجاد على المشروع النووي العسكري، ونشر الاثنان ورقة اختصاصية حول الموضوع تشير إلى قنبلة نووية. وحسب معلومات مقربين من مكتب خامنئي، فإن المرشد الأعلى يبحث هو أيضا عن كيفية تسريب المعلومات، وعن سبب فشل وزارة الاستخبارات، لكنه في الوقت نفسه يريد حماية مصلحي.

لذلك، وفي حين يبدو أن الخلاف على السطح حول الفساد والاحتيال، فإن الصراع الحقيقي أعمق بكثير، ويتعلق ببرنامج إيران النووي.

من ناحية أخرى، فإن الإيرانيين غاضبون جدا من السياسة التركية، وبعد رسالته إلى الرئيس السوري بشار الأسد عن السياسة التركية في الشرق الأوسط («الشرق الأوسط» 18 أغسطس/ آب 2011)، بعث خامنئي برسالة حادة إلى رئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، أدان فيها المخططات التركية في المنطقة، متهما أنقرة بأنها تنسق مع واشنطن ضد طهران، وأشار إلى التهديدات التي تتعرض لها سوريا، مؤكدا أن ما تقوم به تركيا ليس مقبولا «بين الأصدقاء وبين المسلمين». ثم كتب لأردوغان قائلا: «إن السير في هذه السياسة سيسبب سقوطك الشخصي».

لماذا هذا التهديد المباشر؟

طلب خامنئي من أردوغان ألا تتعاون تركيا مع الحلف الأطلسي ومع «الشيطان الكبير» ضد إيران، وأن لا تسمح بإقامة الرادارات الأطلسية فوق أراضيها، وسأله: «هل فعلنا أي شيء ضدك كي تستخدم كل شيء ضد الجمهورية الإسلامية ومصالحها في المنطقة؟».

ثم أصر على ألا تنصب تركيا رادارات الأطلسي، وأن تشرع في محادثات مع إيران بشأن التعاون الإقليمي.

قد تكون هذه الرسالة هي السبب لإعلان تركيا أنها لن تضع الرادارات قبل عودة أردوغان من نيويورك، وهذا يعيدنا إلى نظرة وزير الخارجية التركي، أحمد داود أوغلو، إلى إيران وأهميتها بالنسبة إلى طموحات تركيا.

في هذه الأثناء يستمر أحمدي نجاد في جولته الأفريقية، طالما أنه خرج من إيران، لكنه سيعود، لقد اشتاق فقط إلى من يرحب به ترحيبا حارا.