من الغابة إلى الواحة

TT

أما الغابة فهي الحياة السياسية في العالم الثالث، بل أكاد أن أقول في العالم كله. والغابة مليئة بالأشواك والعثرات والقلاقل، وإذا ولجت إليها فإنه من الصعب - إن لم يكن من المستحيل - أن تنجو منها.

ومع ذلك، فإنه يأتي وقت يصعب فيه الاستمرار في الغابة، بل وقد يكون الأمر مستحيل الاستمرار، وعندئذ لا بد من التفكير في الخلاص.

ومع كل هذه الأشواك، فإن الغابة لا تخلو من بعض الإغراءات في حالات غير قليلة. في تلك الغابة - غابة السياسة - قد تحس بأنك تمتلك النفوذ والسلطة – ذلك إذا قدر لك أن تنجح - أما إذا لم تنجح فقد تجد من يعتبرك بطلا لم يحالفه الحظ، وقد يرى فيك آخرون غير ذلك وينعتونك بأرذل الصفات. والغابة تدين دائما للمنتصر. ولكن، لما كانت الغابات مختلفة، فإن النصر في غابة يختلف في مقوماته عن النصر في غابة أخرى.

في بعض الغابات يرتبط النصر بالمقدرة على كسب رضا الناس وتأييدهم. وقد يكون هذا النوع من الغابات هو أفضلها وأقلها إيذاء، هذا وإن لم يسلم الأمر حتى في هذه الغابات من صعود وهبوط وتداول بين الانتصار والانكسار.

وهناك غابات أخرى يرتبط فيها النصر بالقهر والإكراه وسلب الناس حرياتهم وتغييب إرادتهم، ومع ذلك لا مانع عندهم من الحديث عن «الديمقراطية»، ذلك أن الحديث مكلمة أو ملاه طالما لم يتحول إلى فعل وعمل.

ولعل أصعب أنواع الغابات وأكثرها أشواكا هي تلك الغابات التي تمر بمراحل الانتقال من غابة يسودها القهر والإكراه إلى غابة تريد أن تخرج من القهر والإكراه.

غابة السياسة ثقيلة على أعصابي وعقلي، ذلك أنني بحكم تكويني النفسي والعقلي أميل إلى العمل الأكاديمي والفكري وأجد نفسي فيه ولا أجد نفسي في دوامات العمل التنفيذي بكل صوره. حتى في الجامعة لم أستطع أن أستمر «عميدا» لأكثر من سنة واحدة عدت بعدها للتفرغ للتدريس ورسائل الدكتوراه.

وقد ساعدني ذلك كله على اتخاذ قراري الأخير بترك غابات السياسة إلى الواحة التي اخترتها.

فما هي الواحة من وجهة نظري وكيف أتصور أن تكون.

هي واحة يقل فيها القلق والتوتر ويستظل فيها الإنسان كثيرا – وإن لم يكن دائما – بظلال من الرضا والسكينة والأمان النفسي، وليس في هذه الدنيا واحة أكثر إمتاعا من واحة الرضا والسكينة والأمان.

في هذه الواحة تقبل على عمل ما يرضيك وتبتعد عما لا يرضيك. تقبل على ما يمتعك من أعمال وتبتعد عما ينغص عليك من تصرفات وأفعال.

ومتعي في الحياة محدودة. فلست طالب مال ولا جاه والحمد لله. أحب عملي الأكاديمي وأجد متعتي مع طلاب الدراسات العليا وطلاب الدكتوراه سواء في كلية الحقوق أو معهد البحوث والدراسات العربية.

صحيح أن مستوى هؤلاء الطلاب لم يعد كما كان من عدة سنوات. ذلك أن كل مستويات الحياة الثقافية والفكرية والعلمية هبطت بشكل واضح في السنوات الأخيرة التي اختل فيها سلم القيم، فبعد أن كانت قيمة العمل وقيمة العلم هما القيمتان الأكثر تقديرا واحتراما أصبحت قيمة الكسب السريع – من أي طريق – هي القيمة الأكثر شيوعا، وأصبح الفساد الذي لا يستحي هو أقوى مؤسسات الدولة وأكثرها ترابطا. ومع ذلك، يظل العمل الأكاديمي – وقد يكون العمل القضائي أيضا - هو أكثر الأعمال منجاة من الاختلال الشديد.

وإلى جوار العمل الأكاديمي بمحاضراته القليلة ورسائله الكثيرة – للدكتوراه أساسا – أجد متعتي أيضا في القراءة الحرة.

قراءة الشعر والأدب والفلسفة، فقد كانت هذه إحدى متعي الأساسية منذ نعومة أظفاري. وأرجو أن تمكنني «الواحة» من استعادة هذه المتعة. قلت قديما: ليكن القانون مهنتي، وليكن الفن والأدب والفلسفة هي متعتي.

وأتصور أن الانتقال الأخير من عالم الغابة إلى عالم الواحة قد يساعدني على أن أحقق هذه المتعة الغالية.

وفي الواحة متع أخرى لو استطاع الإنسان أن يتقن فن الاستمتاع بالحياة، ذلك أن الحياة كما قال أندريه جيد هي فن من أدركه تمتع به ومن لم يفهمه ويدرك أبعاده عاش في هم وغم واضطراب والعياذ بالله.

ولعل الإخوة اللبنانيين من أبناء العروبة أجمعين هم أكثر الناس إدراكا لفن الحياة وأكثر الناس تمتعا بحياتهم على الرغم من ما في هذه الحياة من قلاقل ومصاعب وآلام. ولكنهم يستطيعون وسط ذلك كله أن يتمتعوا بحياتهم.

وقد يكون حب الجمال في الإنسان وفي الطبيعة وما يصاحب ذلك من سفر وترحال وانتقال هو إحدى متع الحياة الأساسية التي قد تنتجها الواحة في عهدها الجديد بعد هذا العمر الذي طال في الكد والمعاناة والكفاح وبعد أن أديت ضريبة الوطن على خير ما استطعت من أداء.

نعم، لقد انتقلت أخيرا من الغابة، ولكن يقيني أني لم أترك هموم بلدي وأمتي كلها وراء ظهري ذلك لم يحدث أبدا.

ما زال يلاحقني من هذه الهموم الكثير. ولكن، أن تكون وسط الغابة – كما كان الحال في الماضي القريب – أو أن تكون على حافتها كما هو حادث الآن، شيء آخر مختلف كل الاختلاف. ولعل من أجمل ما في الواحة صوت الخالدة الرائعة أم كلثوم وهي تشدو بروائعها التي أحتفظ بأشرطتها جميعا بحجرة نومي ومعها جهاز صغير أستمع إليها كل ليلة وأحس باللوعة والمتعة والشجن، وأصعد أحيانا مع صوتها إلى عوالم من التصوف وهي تشدو بأغاني رابعة أو بـ«القلب يعشق كل جميل».

رحم الله أم كلثوم رحمة واسعة وجعل لها في الجنة قصرا يتواءم مع ما أمتعت به ملايين الناس في كافة أرجاء الأرض وكلهم يلهج بعد سماعها بقوله: يرحمها الله.

يرحمنا الله ويهدينا في الواحة الجديدة إلى معرفة فن الحياة.

* نائب رئيس الوزراء المصري السابق ينضم إلى كتاب

«الشرق الأوسط» ويكتب مقاله كل يوم خميس