إسرائيل ستدفع ثمن نظراتها الحولاء للمستجدات الشرق أوسطية!!

TT

ما لم يدركه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهو يعتلي منبر الأمم المتحدة ويكرر الكلام نفسه الذي كان قاله مسؤولون إسرائيليون من فوق هذا المنبر إياه مرات عدة، هو أن الشرق الأوسط اليوم غير الشرق الأوسط بالأمس، فالمعادلات السابقة اهتزت جميعها، وهناك تحولات لا تشير فقط، وإنما تؤكد على أن هذه المنطقة ذاهبة إلى جغرافيا سياسية جديدة، وأن ما بقي قائما لسنوات طويلة باتت الأرض تهتز من تحته، وأن القادم الذي قطع جزءا من الطريق يفرض على الإسرائيليين إعادة النظر بمفاهيمهم السابقة كلها.

كان على نتنياهو أن يتذكر وهو يتقدم ليعتلي منبر الأمم المتحدة أن إسرائيل دولة شرق أوسطية، حتى وإن كان حبلها السري يرتبط بواشنطن في الولايات المتحدة، وأن هذه الرياح التي بدأت تهب على هذه المنطقة تفرض على الإسرائيليين ألا يواصلوا التمسك بأوهامهم القديمة بأنهم بالقوة وبالتفوق العسكري قادرون على فرض إرادتهم على الشعب الفلسطيني، وقادرون على فرض «السلام» الذي يريدونه على العرب وعلى الفلسطينيين وعلى كل من له علاقة بهذا الصراع الذي كان بدأ فعلا في بداية القرن الماضي.

لم يستوعب رئيس الوزراء الإسرائيلي دلالات أن موظفي سفارة إسرائيل في القاهرة قد فروا من سفارتهم تحت جنح الظلام كالفئران المذعورة، كما أنه لم يدرك بعد أن هذه الدولة التي بقيت مدللة العالم الغربي كله قد أصبحت معزولة وغير مقنعة، وأن عقدة ذنب هذا العالم تجاهها قد انتقلت لتصبح تجاه الشعب الفلسطيني الذي دفع ولا يزال يدفع ثمن مؤامرة دولية تواطأت فيها بريطانيا ومعها كل الدول الأوروبية والولايات المتحدة مع الحركة الصهيونية لإنشاء وطن مصطنع على حساب وطن شعب اقتلع منه بالإرهاب والتقتيل والقوة العسكرية.

ولعل ما يدل على أن الإسرائيليين الذين لديهم مراكز دراسات متخصصة في كل صغيرة وكبيرة في الشرق الأوسط وما يحيط بالشرق الأوسط، لم يستوعبوا ولم يصدقوا كل هذا الذي جرى والذي لا يزال يجري وسيجري في هذه المنطقة، أنهم استمروا بالتصرف تجاه عملية السلام وتجاه هذا الصراع المستمر منذ أكثر من قرن كامل على أساس أن هذا الربيع العربي هو مجرد غمامة صيف ستنقشع قريبا، وأن العرب باقون على ما هم عليه، وأن كل ما في الأمر أنهم سيستبدلوا أنظمتهم الاستبدادية الحالية بأنظمة أكثر استبدادية منها، ولكن بأشكال جديدة وبـ«ديكور» غير «الديكور» السابق، ووفقا لتجربة الانقلابات العسكرية في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي.

تقول المعلومات التي سربها بعض سفراء إسرائيل في بعض الدول الأوروبية، إن الإسرائيليين أصيبوا بما هو أكثر من الرعب والهلع عندما رأوا تلاحق سقوط بعض أحجار «الدومينو» العربي، وعندما باغتهم سقوط الرئيس المصري حسني مبارك بعد أيام قليلة من سقوط زين العابدين بن علي، ثم انتقال عدوى السقوط إلى جماهيرية معمر القذافي وإلى نظام الرئيس بشار الأسد الذي يعتبرونه ضرورة من ضرورات استمرار هذه الأوضاع الشرق أوسطية على ما هي عليه لسنوات طويلة مقبلة.

لكن وحسب هذه المعلومات فإن نتنياهو عاد للتصرف على أساس أن هذه الثورات العربية وأولها ثورة مصر، بدأت تتآكل وبدأت كالقطط تأكل أبناءها، وأن الدول التي ضربها هذا الـ«تسونامي» الذي كان مخيفا ومرعبا في البدايات سوف تنشغل لسنوات طويلة بأوضاعها الداخلية، وأنها ستزداد إنهاكا ولن تكون قادرة على تشكيل أي تهديد جدي لإسرائيل قبل ربع قرن من الزمن على الأقل.

وتقول هذه المعلومات الدبلوماسية الإسرائيلية أيضا، إن أكثر ما أرعب الإسرائيليين في البدايات هو أنهم فوجئوا باهتزاز نظام الرئيس بشار الأسد الذي كانوا يعتقدون أنه الأكثر متانة ورسوخا في الشرق الأوسط كله، وأنهم تحت هول هذه المفاجأة بدأوا يفكرون في مشروعهم القديم بالسعي لتحويل هذه المنطقة إلى دويلات طائفية متصارعة تشكل إسرائيل بالنسبة إليها ما كانت تشكله ولا تزال بريطانيا العظمى بالنسبة لدول «الكومونولث» البريطاني، وحقيقة أنهم لا يزالون يفكرون في هذا المشروع مع أنه أصبحت لديهم قناعة بإمكانية صمود النظام السوري وتجاوزه لهذه الأزمة الطاحنة.

لقد أصبح الإسرائيليون يتصرفون بعد امتصاص مخاوف احتمال سقوط نظام الرئيس بشار الأسد في غضون أيام وأسابيع، على أساس أن سوريا ستبقى ولسنوات طويلة غير مؤهلة للتأثير في مسارات عملية السلام في الشرق الأوسط، لأن جيشها تخلى عن مناقبيته الوطنية وتحول إلى عصابات تطارد السوريين وتقتلهم بلا شفقة ولا رحمة، ولأنها وحتى إن سلم هذا النظام ستخرج منهكة من هذه «المعمعة»، وأنها ستنكفئ على نفسها ربما لأكثر من عقدين من الزمن.

لكن ما هو مؤكد أن قراءة الإسرائيليين هذه لكل هذا الذي شهدته وتشهده المنطقة قاصرة وحولاء، والسبب هو أنهم يقيسون كل هذه المستجدات الاستراتيجية بالمقاسات القديمة، وعلى أساس أنهم سيبقون على تفوقهم ما دامت الولايات المتحدة مستمرة بالوقوف إلى جانبهم، وما دامت لا تتردد في تبني أكثر سياساتهم تطرفا ويمينية وتأثيرا مستقبليا على مصالح أميركا الحيوية في الشرق الأوسط وفي الإقليم كله.

لكن ومرة أخرى فإن ما يدل على أن كل استنتاجات الإسرائيليين في هذا المجال خاطئة هو أنهم يقرأون مستجدات المنطقة بعيون حولاء، وهو أنهم لا يثقون في قدرات الشعوب، وأنهم لا يريدون الاعتراف بأنهم قد كسبوا كل حروبهم مع العرب ليس بأسلحتهم ولا ببسالة جنودهم، ولكن بديمقراطيتهم، ولأنهم كانوا يحاربون أنظمة انقلابات عسكرية كانت تذهب إلى الحروب معهم وخيرة ضباط جيوشها في السجون والمعتقلات وفي المنافي البعيدة.

إن هذا هو مجرد جانب من مستجدات الشرق الأوسط بعد ثورات الربيع العربي التي ستتواصل حتما، والتي ستنتصر بالتأكيد، أما الجانب الآخر فهو بروز تركيا على هذا النحو كرقم رئيسي في المعادلة الشرق أوسطية، والظاهر أن بنيامين نتنياهو لم يفهم قول رجب طيب أردوغان إنه لن يسمح بأن يكون البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسرائيلية، وأنه لم يدرك أن هذا يعني أن جغرافيا سياسية جديدة باتت تتشكل في المنطقة، وأن تركيا غيرت اتجاه مجالها الحيوي من الغرب إلى الجنوب، وأن الصراع على البحر الأبيض المتوسط وغازه سيحدد مستقبل هذه المنطقة، وأن مستقبلا حالك السواد سيكون في انتظار إسرائيل إن هي لم تدرك كل هذه الحقائق وتتعامل مع عملية السلام بكل واقعية وعلى هذا الأساس.

هناك واقع آخذ في التشكل في هذه المنطقة، وهناك تحول واضح في مواقف معظم دول العالم، إن ليس كلها باستثناء الولايات المتحدة، تجاه الصراع في الشرق الأوسط، ثم إن هناك عاملا أساسيا وهو أن الولايات المتحدة باتت تزداد إنهاكا، وأن نظرية القطب العالمي الأوحد التي ترسخت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينات القرن الماضي قد بدأت هي في الاهتزاز بدورها في ظل بروز المجموعة المطالبة بعالم متعدد الأقطاب، وهي الصين وروسيا والهند والبرازيل، وهذا يجب أن يفهمه بنيامين نتنياهو جيدا، ويجب على أساسه أن يدرك أن السلام الذي يسعى لفرضه على الفلسطينيين والعرب لن يكون، وأنه إذا أراد تجنيب الإسرائيليين ويلات تاريخهم الطويل فإن عليه أن يستجيب لاستحقاقات ومعطيات المرحلة الجديدة في هذه المنطقة، وأن يعترف للشعب الفلسطيني بدولة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 ومن ضمنها القدس الشرقية.