المصالحة مع السياسة في المغرب

TT

المغاربة اليوم في حال خصومة مع السياسة، خصومة قائمة منذ مدة غير قليلة، بل خصومة يصح القول فيها إنها من سمات المشهد السياسي في المغرب اليوم والحال أن الصورة التي يستوجبها المستقبل القريب، في الغد المنظور، تستوجب غير ذلك - لا، بل إنها تستوجب انخراطا في الفعل السياسي وانشغالا به على أسس من العقلانية والواقعية، إن لم نقل لدواعي براجماتية مقبولة في الوجود الاجتماعي للبشر.

المؤشرات على قلة الاحتفال بالسياسة، من حيث هي أولا وأساسا اهتمام بالشأن العام وجعل له في بؤرة الشعور وفي صدارة الاجتماع البشري، كثيرة وهي بالجملة معلومة يمكن إحصاؤها والإحاطة بأكثرها أهمية وتأثيرا. نحن، في هذا المنبر، قد وقفنا عند الكثير منها واجتهدنا في الإبانة عن الأسباب والتدليل على البدائل المرجوة. ونرى اليوم، انفعالا مع ما يعتمل في الساحة السياسية في المغرب عشية التحضير لانتخاب برلمان جديد (في الغرفة منه) من جهة أولى، وللمقتضيات المنطقية والطبيعية التي يستلزمها ما تم من موافقة على الدستور المغربي الجديد في فاتح يوليو الماضي وهذا من جهة ثانية، وتقديرا لما يبديه الشارع المغربي من حراك واجهته حركة 20 فبراير ووقوده السياسي يستدعي قولا كثيرا وهذا من جهة ثالثة دون أن نغفل الآثار السياسية للدينامكية التي أحدثها «الربيع العربي» ولا يزال يحدثها مما لا يمكن الاستخفاف به أو التقليل من شأنه بالتحصن خلف أمان كاذبة أو التعلل بحديث كاذب عن الخصوصية - وهذا من جهة رابعة. والمؤشرات الكبرى التي نشير إليها يمكن التذكير الضروري بها على الوجه المختصر التالي.

أول المؤشرات وأصحها اعتمادا (مع ما قد يشوبها من انعدام الدقة) هو ذاك المتعلق بالانتخابات التشريعية الأخيرة (2007)، فهي تخبر عن نسبة مشاركة هزيلة (20 في المائة). وثاني المؤشرات هي الضعف العددي للمنتمين للأحزاب السياسية بكل اتجاهاتها وكامل الأطياف الأيديولوجية (في غياب معطيات إحصائية واضحة يتداول المهتمون رقما يضطرب بين المليون الواحد والمليون ونصف المليون من المنتمين). وثالث المؤشرات ما تتوجه به أصابع اتهام المواطنين إلى الأحزاب المغربية من اتهامات يرون أن الأحزاب المغربية، جميعها، تشترك فيها. أخص تلك التهم: انعدام الديمقراطية الداخلية، الجمود في تشكيل النخب السياسية لانعدام الرغبة الحقيقية في التجديد والتشبث بالوجوه القديمة، تفشي المحسوبية والعلاقات والزبونية والعائلية، التساهل، بل الأخطاء الشنيعة في قبول منخرطين جدد يفدون إلى الحزب قصد الترشيح باسم الحزب في الانتخابات، ضدا على المساطر المعروفة وعلى مقررات المؤتمرات الوطنية لتلك الأحزاب، وهو ما يشيع جوا من انعدام الثقة، ناهيك عن القبول الضمني من قيادات الأحزاب لظاهرة «الترحال السياسي»، أي الترشيح باسم حزب من اليمين، مثلا، ثم الانتقال بعد الفوز في الانتخاب إلى صفوف حزب من اليسار أو العكس. ناهيك عن التشابه الشديد في البرامج السياسية، تشابها يبلغ في بعض الأحيان درجة التطابق وهذا من جهة أولى، والإعلان، في بعض الأحيان أيضا، عن تحالفات غير مفهومة ولا معقولة وإنما هي حسابات ضيقة، انتهازية، توجهها فتضيع منها المصداقية، لا بل إن خلطا يحدث أحيانا بين عمل كل من الموالاة والمعارضة.

في مقابل ما ذكر يلاحظ وجود حيوية في المجتمع المدني ومؤسساته في المغرب، والحيوية تلك تستحق التنويه أحيانا غير قليلة، كما يتجلى ذلك في المناسبات التي تستوجب التضامن واللحمة الاجتماعية. تحمل الظاهرة تلك على طرح سؤالين اثنين أو، بالأحرى، سؤال له شقين: هل تمكن الاستعاضة بالمجتمع المدني عن المجتمع السياسي في العالم المعاصر وفي الوجود السياسي السليم؟ وهل يمكن للمجتمع المدني، من حيث هو كذلك، أن ينهض بالشأن السياسي؟ نقول، في عبارة أخرى، هل في الإمكان الحديث عن نظام ديمقراطي والنظام يتطلع إلى إقرار الحياة الديمقراطية الطبيعية؟

نحسب أن خير إجابة عن الأسئلة السالفة، أو بالأحرى السؤال الواحد في صيغه المختلفة، ومجموع التجارب التي عاشها العالم العربي منذ مستهل خمسينات القرن المنصرم أو التي لا يزال يعيشها في مناطق منه بكيفيات متنوعة في الظاهر متماثلة في العمق. هي محاولة إجهاض الحياة السياسية الطبيعية، بدعوى محاربة التشتت ومحاربة «الخيانة» في تجلياتها المختلفة، أو بدعوى الاستعاضة عن الحياة الحزبية بنظام ضمني لحزب واحد يمنع كل ما عداه. هذا النحو من النظر إلى الأمور هو ما شاهدته عموم البلدان العربية التي عرفت انقلابات عسكرية أو استيلاء على السلطة السياسية من قبل الجيش. لا حاجة إلى التذكير بأن مختلف هذه البلاد العربية، مع تعدد المسميات والإبداع في الخطابات الثورية لم تخرج عن هذا السبيل قيد أنملة. أفرزت الأنظمة السياسية المنبثقة عن الانقلابات العسكرية «أحوالا» (بالمعنى الذي يتحدث به المتكلمة عنه) غريبة كان الامتزاج فيها قويا بين الدولة والحزب من جانب أول، وبين النقابة والحزب والدولة معا من جانب ثان، وبين الحزب «الوحيد» وبين المجتمع المدني فكان رئيس الدولة رئيسا على الإطلاق، كما يقول المناطقة، من حيث أنه الرئيس الواحد الأوحد. وإذا انتبهنا إلى أن تلوينات من الاشتراكية حينا وتلوينات من الأيديولوجية القومية، حينا آخر، وربما تمازجت التلوينات كلها فجاءت مثل نعت حافظ إبراهيم للحالة التي أصبحت عليها اللغة العربية «مثل ثوب ضم سبعين رقعة..»، إذا انتبهنا إلى هذه الأشياء كلها فنحن نكون، لا شك، أمام صورة غريبة محيرة، والحركية التي شهدها الشارع العربي في البلاد التي اشتدت فيه حركة الانتفاض يرجع الأمر فيها إلى ما ذكرنا من الأسباب مجتمعة ومتفرقة.

استطرادنا الطويل هذا إجابة شافية، فيما نحسب، عما يكون من محاولة لتعطيل الحياة السياسية الطبيعية (ونظام الحزب الوحيد وما في معناه إلغاء لتلك الحياة)، ومما يكون عن ادعاء آخر مشابه في الطبيعة ومختلف في الصيغة والصورة فحسب، والقصد به القول، الضمني أو الصريح، إن في وسع المجتمع المدني أن يحل محل المجتمع السياسي وينوب عنه أو ينوب منابه كما يقول علماء الكلام المسلمون.

لاشك أن هنالك تباينا واضحا بين المغرب الذي ظل، بحمد من الله تعالى، في حفظ وحرز من المغامرات العسكرية كما أنه، بشهادة التاريخ، أبان عن قوة ذاتية حفظت عليه، بعد إرادة الله عز وجل وحدته وتماسكه، وبين نظم عربية أخرى بيد أن العماد الثقافي بين مجموع البلاد العربية واحد وإن اختلفت التجليات السياسية، ثم إن للتاريخ منطقه العجيب الذي يدق عن الفهم أحيانا، أو قل إن حقائق وأوليات تحتجب أحيانا خلف «خصوصيات» متوهمة. ودرس التاريخ يفيدنا أنه لا شئ أكثر ضررا بالشعوب والدول معا من الانصراف عن الشأن العام وقلة الاحتفال به. وحيث كان للتطور التاريخي منطق، ليس في هذا الجانب يدق عن الفهوم، فإن المستفاد منه أنه لا حياة سياسية سليمة، وبالتالي فلا عاصم للدولة والشعب من عبث العابثين، إلا في توافر الشروط الضرورية والمعروفة للحياة السياسية الطبيعية. وحيث إننا لا نكون في حاجة إلى سلوك الدروب الأربع، كما يقول المثل الفرنسي السائر، حتى نتبين أن الحياة السياسية السليمة والطبيعية تقتضيان وجود الحزب السياسي والحياة الحزبية الطبيعية، فنحن في حاجة، مع ذلك، إلى التذكير بحقيقة أولية ربما كنا، من حيث لا ندري، في غفلة عنها. هذه الحقيقة الأولية هي، في الوقت ذاته، حكمة أزلية أدركها الحكماء وتحدث عنها وفيها رجال السياسة ومفكروها: في خصومة مع السياسة، لا يستقيم وجود سياسي. وبالتالي فنحن دوما في حاجة إلى أن نكون مع السياسة في حال صلح ومصالحة لا في عداوة وخصومة.