ما بعد العاصفة.. غموض خطر

TT

بلغت عاصفة «استحقاق سبتمبر» ذروتها بالخطاب الساخط الذي ألقاه الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي تلاه الخطاب «التقريعي» الذي ألقاه السيد بنيامين نتنياهو، وقبل الخطابين الفلسطيني والإسرائيلي، كان الخطاب الباهت والخطر بالنسبة لنا.. والمدوي والمقدس بالنسبة لإسرائيل.. الذي ألقاه الرئيس باراك أوباما.

وزاد من حدة العاصفة الاحتفالات الشعبية الفلسطينية التي اتخذت طابعا شاملا هذه المرة، حيث انفجار المشاعر الإنسانية التي حبست سنوات طويلة.. أي منذ آخر مظاهرة حاشدة من مظاهرات الانتفاضة الثانية.

الجمعية العامة.. هي القمة، وما يتلوها هو النزول عنها للعودة إلى المسارب القديمة في السلوك السياسي. يعود أوباما إلى البيت الأبيض ليواجه شبكة الأزمات الأميركية المحلية والكونية. ويعود عباس إلى رام الله ليواجه الأزمات الفلسطينية التي لا تزال بلا حل، فعدا أزمة الاستعصاء التفاوضي فهنالك أزمة الانشقاق والأزمة الاقتصادية. ويعود نتنياهو ليستقبل قصائد الإطراء على خطابه من أنصاره، والذم من خصومه، فإما أن يكمل مدته إلى حين الموعد المقرر للانتخابات البرلمانية وإما أن يدخل في انتخابات مبكرة مجالدا لأن يظل رئيسا للوزراء قدر الإمكان.

الخطب الثلاث الأساسية في المشهد، والتي ستخلف وراءها ركاما كثيرا، لم تكن موجهة إلى الرأي العام العالمي، ولا إلى الدول والحكومات المحتشدة في القاعة الكبرى.. بل إن كل خطيب وجه رسائله إلى جمهوره ما يفهم منه أن قضية السلام باتت مؤجلة بالفعل، وأن لكل زعيم ما يشغله أولا، قبل أن يجري التفكير في صيغ جديدة يراد منها إحياء العظام وهي رميم.

لقد أطاحت عاصفة الأمم المتحدة ببقايا ما قبل سبتمبر (أيلول) مثل اللجنة الرباعية التي إن ظلت شكلا فهي لم تعد مقبولة من حيث المضمون.. كما أطاحت بكل آليات العمل من أجل استئناف المفاوضات.. وهي آليات وإن كانت نمطية ومحدودة التأثير أساسا.. إلا أنها كانت تملأ فراغا يخشاه الجميع في الشرق الأوسط، انطلاقا من اليقين بأن الفراغ هو الحاضنة النشطة لإنتاج المفاجآت والعنف والابتعاد عن الهدوء والاستقرار.

لقد تمت الإطاحة بكل هذا لمصلحة غموض من كل النواحي، ولا يقين في أمر رؤية أو استنتاج كيف سيكون الوضع عليه بعد الفيتو الأميركي وطرق أبواب الجمعية العامة من جديد بما يقابل ذلك من استخفاف إسرائيلي بالمعركة ومكانها وزمانها ونتائجها، خصوصا بعد أن وضع الرئيس أوباما في الجيب وضمنت إسرائيل عدم عودته ثانية إلى الشوشرة القديمة.. مشجعة إياه على أن يهتم بأمر إعادة انتخابه، وزارعة في وعيه وسلوكه فكرة أن الشرق الأوسط هو المكان الأكثر فاعلية في قتل الطموحات وتدمير الفرص.

وحين تفرض إسرائيل على أوباما أن يتنحى جانبا عن رعاية عملية السلام ويخفض إلى ما دون الحد الأدنى تدخلاته المزعجة والمحرجة.. فإن أملا ما كان يمكن أن يلوح ولو لمجرد ملء المرحلة الانتقالية، وهو بروز دور أوروبي عله يخفف من وطأة الفراغ ويهيئ النفوس لمحاولة جديدة.

إلا أن هذا الأمل العابر والواهن، تم حصاره مسبقا حين رفض نتنياهو الأفكار الفرنسية التي طرحت ضمن محاولات ثني الرئيس عباس عن المضي قدما في معركة الأمم المتحدة. لم يكن رفض نتنياهو للمقترحات الفرنسية إلا من قبيل الرفض المسبق والمطلق لأي دور أوروبي جدي في الشرق الأوسط، وخصوصا على المسار الفلسطيني - الإسرائيلي، ولعله من السذاجة المفرطة افتراض أن الفراغ الناجم عن الإحجام الأميركي يمكن أن يملأ بحضور أوروبي، خصوصا بعد انتهاء فرص الرباعية في العمل المنتج.

من بقي إذن.. كي يراهن عليه لرعاية محاولة ملء الفراغ بعد عاصفة سبتمبر؟ الجواب، لا أحد حتى الآن.

حزمة الضوء من الآن وإلى أجل غير مسمى لا بد أن تسلط على الوضع الداخلي في إسرائيل وإلى أي اتجاه تسير رياح السلطة والقرار الرسمي هناك.. وحسب ما نعرف عن إسرائيل وكيفية تعاطي القوى السياسية مع الأحداث المحيطة بها فسيكون سبتمبر الأمم المتحدة، موضوع صراع في أمر التفسير ومقياس فرز في تحديد السياسات والمواقف، سيواصل من يظهرون في الصورة كمعتدلين تعبئهم ضد سياسة نتنياهو ومسؤوليته عن العزلة الدولية التي حشرت إسرائيل فيها، لعلهم بذلك ينقصون من أصواته وفرصه، لمصلحة زيادة أصواتهم وفرصهم.

أما المتشددون وصقرهم الأوضح ليبرمان فهم يقتاتون على الهوامش والفرص والتحريض الذي لا يتوقف، فإلى جانب رفضهم المطلق لمنطق المعتدلين فهم يواصلون وضع نتنياهو تحت أسقفهم إلى أن تحين الساعة للوثوب على الحكم عبر انتخابات لا مجال للتلاعب بأدائها ونتائجها. والوضع الداخلي في إسرائيل صار من النوع الذي لا يستقر أبدا ولا يعطي خلاصات محسومة لمبادرات سياسية إيجابية، ولعل أبرز مثال على ذلك فشل ظاهرة «كديما» في إثبات حضور فعلي على مستوى القرار الأساسي في إسرائيل، رغم أنها في بدايات تشكيلها وصلت إلى أعلى نسبة تأييد داخل الكنيست، أي أنه كان بوسعها اتخاذ القرار بأقل قدر من الممانعة، إلا أنها لم تفعل. فلإسرائيل الدولة حدود وثوابت تحول دون الحسم في أمر السلام وحكاية بيريس ورابين صاحبي المجازفة الكبرى لا تزال ماثلة أمام الجميع والعبرة منها، إن أغلبية الأصوات لا تعني ضمان شرعية السياسات والقرارات وتنفيذها كذلك.

إن الفلسطينيين فيما يبدو وحتى الآن، وخصوصا معسكر السلام والاعتدال فيهم، قد رضوا من الغنيمة بالإياب، فإذا كان الواقع والتجربة المعيشة برهنا على استحالة بلوغ الأهداف بالمفاوضات يقابلها استحالة بلوغها بالقتال، فإن الخيار الوسط هو الإياب من المفاوضات والقتال. وليس أمامهم سوى إيداع الأرصدة في المكان الجاهز لاستقبالها، وهو الأمم المتحدة، دون نسيان أن هذا المكان رفيع المقام كفل للفلسطينيين عبر قراراته حقوقهم محفوظة في الخزائن، وترك أمر كل هذه الحقوق للزمن، لعل الواقع على الأرض يفرز في سنة ما أو قرن ما معادلة تنقل قرارات الأرشيف الجديدة والقديمة إلى الأرض من أجل التنفيذ.

بعد انفضاض العرس الصارخ في الأمم المتحدة، والاحتفالات الصاخبة في الشوارع والميادين ووراء الشاشات المبهرة، لن نجد من يراهن على استمرار العرس بزخمه بعد أن يخلو مطار نيويورك من طائرات الزعماء حاملين معهم كاميراتهم، وكتبة خطاباتهم السنوية، وبعد أن تخلو الشوارع من المحتفلين العائدين إلى لقمة عيشهم ووظائفهم ومدارسهم وجامعاتهم.

الشيء الوحيد والقريب الممكن توقعه.. هو الفراغ السياسي.. فلن تملأه الزيارات والمؤتمرات والمبادرات هذه المرة، بل ربما تنبثق منه المفاجآت غير المقروءة سلفا، وهذا هو حال الشرق الأوسط، ونحن هنا جزء منه إن لم نكن عنوانه الأكثر اختصارا والأشد بلاغة وتجسيدا.