استقلال مَن.. أولا؟

TT

بأي مقياس كان، آخر شعب مشرد على الكرة الأرضية، وآخر شعب «مكتوم الهوية» في عالم الدول السيدة المستقلة... يستحق كيانا جغرافيا ليعرف به على الأقل إن لم يكن لينتسب إليه. فكيف إذا كان هذا الكيان كيانه القومي أصلا ومحتله الأجنبي ينكر حقه فيه؟ مؤسف أن مطالبة الفلسطيني بأرضه ودولته لم تعد قضية حق قومي أو عدالة دولية بل قضية «مصلحة انتخابية» حزبية في دولة تدعي أنها اخترعت الديمقراطية واحتكرت قيمها فيما واقعها يثبت أن اللوبي الصهيوني صادرها من عقر دارها إلى حد أتاح لبنيامين نتنياهو «تأنيب» رئيسها، باراك أوباما، على تردده الخجول - في مطلع عهده - في مواصلة مسيرة أسلافه المنحازين بشكل مطلق لرغبات إسرائيل.

أوليست مفارقة الدهر أن تكشف مطالبة الرئيس محمود عباس بدولة مستقلة للفلسطينيين أن الأبدى اليوم بالاستقلال عن إسرائيل هو الولايات المتحدة... وليس الضفة الغربية؟ قد لا يشعر اليمين الإسرائيلي الشوفيني، في قرارة نفسه، أنه آخر جهة تستعمر شعبا آخر في القرن الحادي والعشرين ليضرب عرض الحائط بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم.

ولكن السؤال يبقى: ما هو عذر فشل رئيس «الدولة الأعظم» في العالم في تجاوز مصالحه الانتخابية الضيقة واتخاذ هذا الموقف المعيب من طلب الاعتراف بحل الدولتين - علما بأنه الحل الأميركي، شكلا ومضمونا، للقضية الفلسطينية؟

هل أعيت واشنطن الحجج المقنعة كي تتبنى الذريعة الإسرائيلية بأن على الفلسطينيين العودة إلى طاولة المفاوضات قبل الحصول على مرجعية الشرعية الدولية لدولتهم دون أن تفسّر للرأي العام العربي – والدولي استطرادا - لماذا تصبح هذه المفاوضات أقل شأنا، وليس أكثر مسؤولية، إذا اكتسبت صفة التفاوض بين دولة ودولة؟

ألا يكفي الإدارة الأميركية انقضاء عشرين سنة على عمليات التفاوض الإسرائيلي الشكلي على التسوية السلمية، دليلا على رفض إسرائيل المطلق لأي تسوية تتجاوز منح الضفة الغربية وضع وصلاحيات بلدية إسرائيلية أخرى على «أرض الميعاد»؟

ألا يكفي رفض إسرائيل وقف مخطط استعمار الضفة الغربية و«توسيع» المستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة (وهو مطلب تبناه أوباما قبل أن «يؤنبه» نتنياهو عليه) لتأكيد تنصل إسرائيل من أي حل على قاعدة الدولتين؟

والأهم من ذلك أيضا، ألا تدرك الإدارة الأميركية أن الأمم المتحدة، بعد عشرين سنة من المفاوضات الفاشلة، أصبحت المنفذ الوحيد للتسوية السلمية، فإذا أصرت على سدّه بوجه السلطة الفلسطينية تكون هي من رجح موقف «حماس» من التسوية على موقف من تصفهم بـ«المعتدلين»؟

تتهم واشنطن الفلسطينيين – والمسلمين عامة - باللجوء إلى أساليب إرهابية في مسلكهم السياسي... وتتناسى أنها تدفعهم دفعا إلى هذه الممارسات بإحباطها مواقف «المعتدلين» وإمعانها في تغذية اليأس من «عدالتها»... وإن كانت هذه «العدالة» لا تتعدى تنفيذ مقررات الشرعية الدولية ومقترحات ثلاثة رؤساء أميركيين.

في هذا السياق قد ينفع التذكير بأن مبرر وجود السلطة الفلسطينية هو العمل على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فإذا فشلت في هذه المهمة لن يكون البديل أكثر اعتدالا إن لم يكن مؤشرا للعودة إلى المقاومة المسلحة.

واضح أن اتهام الفلسطينيين الولايات المتحدة بأنها لم تعد وسيطا صالحا في النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي لم يعد شعارا إعلاميا بعد أن فقدت دبلوماسية الإدارة الأميركية مصداقيتها بانحيازها المفرط لإسرائيل... واللافت أن يجري كل ذلك في عهد الرئيس الأميركي الذي اعتُبر، في مطلع عهده، وقبل أن تأسره اللعبة الانتخابية الداخلية ورغبته بكسب ولاية رئاسية ثانية، الرئيس الأكثر انفتاحا على المسلمين، وفي وقت يطرق فيه «الربيع العربي» أبواب العالم الديمقراطي الذي تتنطح الولايات المتحدة لتزعمه.

هذه المعطيات، وحدها، تبرر لجوء الفلسطينيين إلى منظمة الأمم المتحدة، فبعد فشل «مبادرة» السلام الأميركية - بفضل موقف واشنطن منها - لم يعد للفلسطينيين سوى المرجعية الدولية أملا أخيرا في استصدار موقف دولي يضع إطارا واضحا للتسوية السلمية ويحدد المهلة الزمنية النهائية لإنجازها.