نوح والطوفان!

TT

إنني أنتسب إلى هؤلاء الذين يمشون أثناء النوم.. كأنني كذلك.. أو كأنني «غرقان» أطفو على الماء من حين إلى حين لكي ألقي نظرة على البحر أو على الشاطئ.. أو كأنني نوح في الطوفان.. والناس هم الطوفان، أفتح نافذة أطل منها وبعد ذلك أغلقها.. وأنا أستمع بوضوح إلى صوت الموج وصوت الرياح.. أو كأنني أحد رواد الفضاء قد ارتدى بذلته الإلكترونية ولكني لا أسمع ما حولي.. وإنما أنا في عزلة علمية تكنولوجية تامة.. أو كأنني أحد السباحين الذين قرروا أن يعبروا المحيط فغطيت جسمي بطبقة من الشحم تعزلني عن الحرارة والبرودة.. والتي تجعل جسمي أقل مقاومة للماء..

وكثير من الناس يضيقون بركوب القطار أو السيارة أو الطيارة مسافات طويلة، ولكني لا أضيق، فالمقعد الذي أجلس عليه كأي مقعد، إنه مقعد معلق في الهواء أو تحت الماء أو فوق القمر.. فأنا لا أدري بشيء حولي.. وإنما غارق في داخلي..

وينطبق على حالتي ما قاله الشاعر الألماني هينه عندما رأى الشاعر الفرنسي هيغو قال: لقد انقلبت عيناه من كثرة النظر إلى داخله فلم نعد نرى إلا بياضهما!

فهل سبب هذا السرحان عدم قدرتي على التركيز على العالم الخارجي؟! ربما لضعف نظري.. فأنا لا أستطيع أن أرى تفاصيل الدنيا.. وإنما أراها كلها جملة واحدة.. أراها شاملة، ولذلك فأنا لا أنظر إلى العالم قطعة قطعة.. أو شخصا شخصا.. وإنما عموما.. هل هذا هو السبب؟ أم هل لأنني مشغول بمعنى الذي أراه؟!

والمعنى هو التفسير الشامل لكل الأشياء.. هل هي الدراسة الفلسفية التي جعلتني مهتما بالكليات لا بالجزئيات؟ بالناس وليس بفلان.. بالأشجار وليس بشجرة.. بالطيور وليس بعصفورة واحدة.. بالدنيا وليس بالحياة.. بالكون وليس بالأرض.. بالخلق وليس بالمخلوقات؟!

ربما كان هذا أحد الأسباب..

وليس معنى ذلك أنني غائب تماما، وإنما أحيانا.. وليس معنى ذلك أنني غريب عن الدنيا.. وإنما مغترب بعض الوقت.. وليس معنى ذلك أنني أغمض عيني لأرى خيال الحياة، ولكني أغمض عيني لأرى أوضح.. وأسد أذني لأسمع أعمق.. وأسرح لأفهم أسرع..

ولقد أمضيت سنوات طويلة أقف بباب محل «البن البرازيلي» مرتين في اليوم.. مرة في الصباح الباكر ومرة بعد الظهر.. ثم أتوقف ببابه ذهابا وإيابا في أي وقت.. كنا مجموعة من الأصدقاء نعمل في الإذاعة ووكالات الأنباء.. أصدقاء وزملاء دراسة ورفاق المهنة.. وعلى باب البن البرازيلي وفي داخله وأمامه وفي الطريق إليه.. كنت أجدني مشدودا مجذوبا.. بالزحام حولي لا أدري به.. أجسام تروح وتجيء.. وألوان تتداخل.. تطفو على وجه بحيرة من البن.. أو في ضباب من البخار.. أحيانا أحس كأن المحل ميناء على بحر من البن الأسود والبن باللبن.. والكابوتشينو والشاي.. وأنني بحار ينزل إلى الأرض.. سعيد بأنها ثابتة تحت قدمي.. أما الذي يتحرك فهو البحر.. الموج.. الهواء.. والحيوانات والناس والحيتان التي تخوض هذا البحر.. أو أن البحر هو الآخر ثابت جامد.. أما الذي يتحرك فهو أنا.. رأسي أو ما في رأسي!