الثور الأخير

TT

مساء الأحد الماضي أسدل خوسيه توماس الستار على 624 عاما من ممارسة عمل همجي يسمى مقاتلة الثيران، وترجمة أسلافنا، سامحهم الله، «رياضة مصارعة الثيران». وهو ليس مصارعة ولا رياضة ولا حتى مقاتلة. هو عملية اغتيال بطيئة بأسياخ الحديد، لثور مسكين، يشارك فيها عدد من الرجال، ومصارع على ظهر فرس. ترافق عملية التعذيب هذه فرقة موسيقية تعزف ألحانا مهمتها إثارة الآلاف من الحاضرين وإذلال الثور وزيادة متعة المصارع وهو يرمي الثور بين كتفيه.

لا يدري الثور شيئا مما يحدث. لا يعرف لماذا يتلذذ البشر بنزف الثيران. لا يفهم لماذا تمنح آلامه وعذابه وموته البطيء كل هذا الفرح لكل هؤلاء البشر. ولا يعرف لماذا لا يترك ليذبح مثل غيره من البقر بعد سنوات في واجب الحراثة والمساعدة على الزرع. ولا هو توصل، بعد آلاف السنين، إلى أن يفهم الجنس الآخر، أي الناس: لماذا قسم منها يقدس الأبقار ويتركها لهواها في شوارع دلهي، وقسم آخر يجد نشوته القصوى في تعذيبها حتى الموت.

أليس منع قتل الثيران في كتالونيا حدثا محليا لا شأن لنا به؟ لا. إنه حدث كوني يمنحنا الأمل بأننا قد نصل إلى يوم نقر فيه حظر التعذيب البشري، ورفع الإنسان العربي إلى مرتبة الثور الكتالوني الذي لم يعد مسموحا بأن تخدعه ولا أن تطلق مجموعة من الجلادين عليه يزرعون فيه الألم والنزف والوهن حتى الموت.

كلما نقلت أخبار العالم تظاهرة ضد تعذيب الحيوان أو قطع الأشجار تنادى كثيرون ممن يستخدمون الصحف لرمي مشاعرهم، إلى السخرية من الشعوب التي تمارس هذا الترف. هذا دليل على افتقاد أي ثقافة بيئية، بذريعة أن الإنسان أهم من الحيوان. وقد يكون ذلك صحيحا حيث يتم التمييز بينهما، لكن في بلادنا لا يحسد أحدهما الآخر. كلاهما يعيش حالة مشابهة من الخوف والجوع والتيه والتشرد في ديار الله. وكلاهما بلا أمس وبلا غد وطبعا بلا حاضر. وكلاهما يطرب ويصفق إذا تكرم عليه سيده بكلمة تشجيعية أو بهمهمة أو بطبطبة عابرة، كما في كليبات السيدة عجرم، بين الأشجار.

كان عبد الحليم حافظ، الصحافي، يصر على مناداة عبد السلام النابلسي، المصور، بـ«يا بجم». وأخيرا اعترض الطريف الراحل: «إيه ده.. بجم. بجم. ما ترقيني شوية يا أخي». لا يحلم الإنسان العربي بالارتقاء إلى مستوى الثور الإسباني. يريدونه أن يبقى أعمى، يعتقد أنه يناطح الحصان، غير مدرك أن عدوه على ظهره، ويريدونه كلما لوحوا له بمنديل أن يخرج من البوابة مندفعا كثور كتالونيا: بالدم. بالروح. وبعد قليل يفقدهما في الحلبة نفسها!