سرحان والحمد لله!

TT

كل فنان يرى في نفسه لمسة من الإبداع.. والله سبحانه وتعالى هو المبدع.. والله قد خلق الإنسان على صورته.. أي بالعقل والحكمة والتطلع إلى المثل العليا.. أي إلى حكمة الله.. ولذلك، فالأديب والفنان مشدودان إلى الأمام.. إلى إكمال ما بدآه.. إلى المضي في «المشروع».. أي يجعلان الذي ليس بعد صورة لها ما بعد.. ما بعدها..

وعندما تصور المتصوف الألماني إكهارت كيف يكون الكون في صورته الكاملة.. وجد أنه يشبه القطب الشمالي.. باردا أبيض ساكنا ميتا.. إنه بارد لأنه لا أحد هناك.. أبيض لانعدام كل ألوان القلق والمرض والعذاب.. ساكن لأن كل شيء قد بلغ نهايته.. ولذلك فلا حركة نحو هدف.. ميت لأن الموت كمال الحياة.. الموت مثل نضج الثمرة، فليس بعد ذلك إلا سقوطها على الأرض.

أما الحياة فهي الـ«ليس بعد».. أي الاضطراب والقلق والطموح والخوف والحرية والثورة والغضب والانتهازية والجشع.. فالكل يجري من أجل صورة أخرى.. من أجل إكمال الذي لم يكمل.. فكل شيء وكل حي وكل فكرة قد تحققت إلا قليلا.

إنني من المصابين بالسرحان الشديد.. فعندي هذه القدرة الهائلة على أن أسرح.. فلا أدري بأحد أو بشيء.. وقد أبقى كذلك ساعات طويلة.. ولا أعرف بالضبط أين أنا.. وما الذي يدور في داخلي.. ولكن عندي هذه القدرة على أن أنفصل عن كل الذي حولي.. فلا أرى ولا أسمع ولا أتابع.. عندي هذه القدرة على أن أطفئ الأنوار وأغلق النوافذ وأطرد كل من حولي في ثانية واحدة!

وقد ضاق الناس بهذا «السرحان» الذي يرونه إهانة لهم.. وإغفالا لقدرهم.. واحتقارا لشأنهم.. ولكن اعتدت على أن أتابع بعض ما يقولون.. فأبدو كأنني أفهم ما يقولون.. والحقيقة أنني غير ذلك تماما.. بل إنني أجلس أمام التلفزيون وأنظر إليه ولا أعرف بالضبط ماذا جرى.. لم أر.. لم أسمع.. ولكن الذي يراني يخيل إليه أنه لا صغيرة ولا كبيرة قد غابت عن عيني.. ولذلك يمكن أن أرى الفيلم الواحد عشرات المرات وكأنه جديد تماما.. لأنني لم أشاهده في أي وقت!

وتبدأ مشاكلي التي لم تنته، عندما يتعلق ذلك بالناس.. فأنا أصافح ببرود من أعرف جيدا.. وأصافح بحرارة من لا أعرف. ويذهب الناس في تفسير ذلك إلى ما لا يرضيني.. وأنا في حيرة ولا أستطيع أن أعتذر لكل الناس عن هذا العيب.. ولم أوهب القدرة على أن أضحك في وجه الذين لا أعرفهم كأنني أعرفهم.. ولا في وجه الذين أعرفهم كأنني سعيد بذلك.. فحالة السرحان هذه هي «انسحاب عقلي» إجباري.. تماما كما يفعل الناس في مواجهة سيد البيت أو رئيس العمل، فتتوقف الحركة في الغرف المجاورة: لا صوت.. لا حركة.. لا إضاءة.. وإنما كل شيء همس.. احتراما له!