الفروق الموضوعية بين «الدولة الإسلامية» و«الدولة الدينية»

TT

إذا حصل الخلط والتدليس والمزج بين المفاهيم، فإن الواجب المنهجي الأول الذي لا يتقدمه واجب آخر – قط – هو: الفصل والتنقيح والفرقان – بين المفاهيم المخلوطة – جهلا أو خبثا.

إن الفروق الموضوعية بين «الدولة الإسلامية» و«الدولة الدينية» لا تكاد تحصى من فرط كثرتها عدا، وتنوعها كيفا:

1) في مقدمة هذه الفروق: أن الدولة الإسلامية لا تستحق هذا الوصف إلا إذا قامت على «التوحيد الخالص».. «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا».. نعم «يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا».. هذا هو الشرط الأعظم للتمكين في الأرض، وقيام الدولة المسلمة. وأيما زيغ عن أصل الأصول هذا ينزع عن الدولة صفتها الإسلامية الشرعية، مهما أنجزت من أعمال، ومهما رفعت من «شعارات إسلامية».. «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ».. وقيام الدولة الإسلامية على هذا الأصل يحررها – بإطلاق – من كل لوثة كهنوتية.

2) الفرق الموضوعي الثاني بين الدولة الإسلامية والدولة الدينية: أن من خصائص التوحيد الخالص الذي هو عماد قيام الدولة الإسلامية، مطاردة «الكهنوت» الديني السياسي، وعدم مواطنته في أي صورة من الصور.. ومن ذلك مثلا:

أ) مطاردة كهنوت «الوساطة» بين الله والناس؛ فإن أعظم وأجمل وأحلى وأمتع ما في العلاقة بين الله والإنسان أنها – في منهج عقيدة الإسلام – «علاقة حرة ومباشرة» بين الله والإنسان.. أجل، علاقة مباشرة من حيث الإيمان والحب.. ومن حيث الصلاة والمناجاة.. ومن حيث الدعاء والشعور بالقرب منه – تقدس في علاه - «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ».. والوساطة المدعاة بين الله وعباده تزداد سوءا وسوادا إذا ارتبطت بوعود لا يقدر عليها الواعد، وليست من حقه أصلا، كوعود صكوك الغفران.. وإذ يتورط كهنوت الدولة الدينية في ادعاء الوساطة بين الله والإنسان، فإن الدولة الإسلامية على النقيض من ذلك، تخلي بين الله والإنسان كما يقتضي توحيده سبحانه.

ب) مطاردة كهنوت ادعاء العلم بما في صدور الناس، وانتحال صفة الرقابة على ضمائرهم من ثم. وهو كهنوت يتناقض مع حقيقة التوحيد كذلك، فإن العلم بـ«ذات الصدور» من خصائص الإله الحق وحده، وليس ذلك لنبي مرسل، ولا لملك مقرب؛ فحرمة الضمير الإنساني وتحصينه من كل اختراق من أعظم حقوق الإنسان في دين الإسلام. ولذلك – مثلا - لم يعلن النبي، صلى الله عليه وسلم، أن المنافقين «كفار».. لماذا؟ لأنهم – في الظاهر – مسلمون يمارسون شعائر الإسلام الظاهرة، أما حقيقة ما في قلوبهم فلا يعلمها إلا الله وحده، وليس من حق النبي نفسه أن يفتي فيها!! ولتوثيق حرمة الضمير الإنساني قال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عما تحدث به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به».. ستظل حركة الضمير المكنون حرة بإطلاق، ما لم تتحول هذه الحركة إلى عمل أو قول تترتب عليهما مسؤولية تجاه المجتمع.. وإذا كانت الدولة المسلمة تأخذ بهذا المنهج – العاصم للضمير الإنساني من الانتهاك – فإن الدولة الدينية تدعي لنفسها العلم بما في الضمائر.. ثم ترتب الحساب والجزاء وفق هذا العلم - راجع ملفات محاكم التفتيش مثلا.

ج) مطاردة كهنوت «احتكار الحقيقة والصواب»، وهو كهنوت تعتمد عليه الدولة الدينية، ليس في الشأن الديني فقط، بل في كل شأن آخر، ولو كان شأنا علميا «محضا».. مثلا: لم يكن «بيكون» ملحدا، ولم يتدخل في شؤون الكنيسة.. كل خطيئته أنه اجترأ فقال: «باب الحقيقة مفتوح لم يغلق». ولما كان الكهنوت يحتكر الحقيقة والصواب، عدَّ كلام بيكون جرأة وهرطقة، وعندئذ سجن هذا العالم الكبير، ولم يخرج من السجن إلا لكبر سنه.. قارن هذا باحترام رأس الدولة النبوية – صلى الله عليه وسلم – لـ«التجارب العلمية»، فقد اقترح أو أشار – عليه الصلاة والسلام – على ملقحي النخل، أن التلقيح قد لا يكون مهما، فأخذوا باقتراحه، فلم يثمر النخل. عندئذ – وفي صدق النبوة ورشد وشجاعة منهج تحرير التجربة العلمية من كل تدخل – قال: «إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، أنتم أعلم بشؤون دنياكم». وبمثل هذا الهدي ونظائره في الكتاب والسنة، قامت النهضة العلمية الرائعة في ظل الدولة الإسلامية.

وفي ظل دولة النبوة والخلافة الراشدة وسائر الدول الإسلامية المعتبرة، اتسع نطاق الاجتهاد (في الدين)، والقاعدة الكبرى في هذا الاجتهاد هي: أنه ليس لأحد الحق – مهما رسخت قدمه في الإمامة العلمية – أن يحتكر الحقيقة والصواب، وأن يقول للناس: «اجتهادي هو الدين» فعليكم اتباعي أنا وحدي. بل على النقيض من ذلك: جهر علماء الإسلام الكبار بأنهم مجرد مجتهدين، وأن الحق والصواب قد يكون مع غيرهم.

3) وبمناسبة الاجتهاد فإن الفرق الموضوعي الثالث – بين الدولتين الإسلامية والدينية – هو أن قوام الدولة الإسلامية في تصريف الشؤون العامة هو «السياسة الشرعية»، وهي سياسة تواجه بها الدولة المسلمة – في كل عصر وبيئة – مسؤوليتها تجاه الوطن أو الأمة وتجاه العالم؛ ذلك أن عماد السياسة الشرعية هو الاجتهاد المحقق للمصالح المرسلة المبنية أو المنبثقة من ثوابت الإسلام.. وهو اجتهاد فكري فقهي سياسي فيه من الخصوبة والمرونة ما لا يتوافر في الدولة العلمانية أو الدولة المدنية (هذا المصطلح الأخير يحتاج إلى تحرير وضبط، فإنه عائم غائم، ولعلنا نفعل ذلك في مقال مقبل إن شاء الله).. يعرف ابن عقيل الحنبلي السياسة الشرعية تعريفا مرنا متفتحا لا حدود لتفتحه، فيقول: «السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي».. «شوفوا»، هل في هذه السياسة الشرعية رائحة كهنوت ديني أو سياسي؟