جامعة القاهرة من شنغهاي إلى ميدان التحرير

TT

جامعة القاهرة أم الجامعات العربية، وأعرقها، وأكثرها غنى بالعلماء والباحثين والهيئة التدريسية، كان عامها هذا مختلفا، حيث احتفلت فيه بعودتها إلى مونديال شنغهاي العالمي الأكثر اعترافا بين دول العالم لتقييم المستوى البحثي للجامعات.

جامعة القاهرة التي كانت قد دخلت تصنيف شنغهاي عام 2007 ضمن أفضل 500 جامعة عالمية في البحث العلمي خرجت منه في الثلاثة أعوام التي تليها. قيل إن السبب الرئيسي لدخولها شنغهاي ذلك العام هو تحقيقها لمعيار كفاءة الخريجين، حيث كان من بين خريجيها ثلاثة حائزين على جائزة نوبل؛ وهم الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والأديب نجيب محفوظ، والدكتور محمد البرادعي. فتضاءلت فرصتها في دخول التصنيف لاحقا.

ولأن الجامعة محظوظة فعلا بخريجيها، فقد تولى قيادتها البروفسور حسين كامل، الشخصية الوطنية المرموقة وطبيب الأورام وزراعة النخاع، فرسم لها خطة عمل جعلت البحث العلمي في مقدمة أولوياتها، فعمل على زيادة الموازنة بدفع من اتفاقيات أبرمها مع الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، حيث إن الجامعة تمتلك قوى بشرية علمية هائلة وبنية تحتية جيدة جدا ولكنها تفتقر لمصروفات الأبحاث الحديثة والنشر.

حصد الدكتور ثمرة جهوده بدخول جامعة القاهرة نادي أفضل 500 جامعة في شنغهاي لعام 2011، ليس بسبب تاريخ خريجيها هذه المرة، بل بحاضر شبابها الباحثين الذين رفعوا مستوى النشر العلمي الدولي. فعلا، إنها سنة كونية أن الشخصية القيادية الفردية قد تقلب الموازين إن امتلكت رؤية واضحة لما تريد، وإرادة لتحقيقها.

غضب المصريون حينما خرجت جامعة القاهرة من تصنيف شنغهاي بعد 2007، واعتبروا عودتها إليه هذه العام حالة طبيعية تستدعي الديمومة والتقدم في المراتب عاما بعد عام، ورصدت وسائل الإعلام المصرية الحدث المهم بكثير من المتابعة والتركيز، وببعض من جلد الذات كون العرب متأخرين في التصنيف العالمي، حيث ذكر الإعلام المصري أن جامعة القاهرة مع جامعتين سعوديتين (جامعة الملك سعود وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن) لا تكفي عدديا لتمثيل العرب، ولا يليق بالمنطقة العربية أن يكون تمثيلها محدودا، يمثل أقل من ربع تمثيل إسرائيل.

الحقيقة أن هذا الواقع مؤسف حقا، ولا أرى له مبررا سوى ضعف الثقافة العلمية وضعف الجرأة على إصلاح سياسات التعليم والبحث العلمي.

صحيح أن جامعة الملك سعود حققت للسنة الثالثة على التوالي مراتب متقدمة من نادي الـ500 إلى الـ400 وحتى الـ300 هذا العام، بخط مستقيم يرتفع بثبات إلى الأعلى، ولكن كانت فرحة دخول جامعة عربية أخرى لها طابع مختلف. لا يجب أن تكون جامعة الملك سعود وحدها هي التي تنافس لدخول نادي المائتين أو المائة في شنغهاي، الصحيح أن يضم هذا المونديال ما لا يقل عن عشر جامعات عربية ثلاث منها على الأقل سعودية، فدول العالم لا تتطور بالتعليم، لأن التعليم حالة عامة، بل بالبحث العلمي، والمملكة انتقلت من مرحلة التعميم في التعليم إلى التخصيص في البحث العلمي، وإدراك هذه الحقيقة يجعل النظرة إلى البحث العلمي أكثر جدية.

إسرائيل اكتسحت هذا العام في شنغهاي معظم دول العالم في تخصصات التكنولوجيا وتقنية المعلومات والرياضيات، وأميركا أزاحت جامعات أوروبا إلى الوراء في كل العلوم؛ من الطب إلى العلوم الاجتماعية. واليابان تفوقت على الصين، وماليزيا خرجت حزينة. العالم يتنافس على البحث العلمي لينافس تلقائيا على اقتصاد السوق والهيمنة العالمية. لكن إن أردتم أن تعرفوا لماذا الدول العربية متخلفة عن ركب العالم، فاعلموا أن مدير جامعة القاهرة قدم مؤخرا استقالته من إدارتها إلى المجلس العسكري، وقبل المجلس الاستقالة. أما لماذا هذه الخطوة المستغربة، فلأن الاستقالة مطلب من مطالب ثورة 25 يناير التي تصر على أن قيادات الجامعات يجب أن يتم اختيارهم بالانتخاب وليس بالتعيين. تخيلوا أن يستقيل مدير جامعة القاهرة قسرا بعد شهر من دخول جامعته تصنيف شنغهاي لأن تعيينه جاء بمرسوم رئاسي من الرئيس السابق حسني مبارك قبل ثلاث سنوات؟ أي أن تكليفه مديرا لها ينتهي بعد عام.

ربما هذه الحادثة توضح لماذا دولة مثل سنغافورة حجمها ربع القاهرة تمتلك في شنغهاي أكثر مما تمتلكه مصر مجتمعة، فالعلة والدواء في العقول.

المجتمع الذي لا يولي تقديرا لمبدعيه لن يخسرهم فقط، بل سيخيف المبدعين الآخرين أن يحذوا حذوهم، لئلا تكون لهم نفس النهاية.

على كل حال البروفسور كامل لم يخسر كثيرا، بل وفر على نفسه رؤية جامعته تتقهقر إلى الوراء، لأن اقتصاد الدولة لم يعد يسمح بتحقيق الإنجازات، والمناخ البحثي الذي أدخل مصر شنغهاي أخرجها منه إلى ميدان التحرير، وعندما تتحول المؤسسة التعليمية إلى قضية سياسية ستنهزم المؤسسة ولن تربح السياسة.

* كاتبة سعودية

[email protected]