إعادة زيارة للوضع العراقي ـ الكويتي

TT

ما إن تهدأ عاصفة عراقية حتى تبدأ أخرى، العراق مليء بمشكلات لا أول لها وتكفيه على الأقل للعشر سنوات القادمة. ومع ذلك، ما زال بعضه يثير المشكلات الخارجية خاصة مع الكويت ليعيد إنتاج العداء. أعرف أن العقلاء في الجانبين العراقي والكويتي يرغبون في ألا يتناول الإعلام المشكلات العالقة، وأنها تسبب في نظرهم في حال إشاعتها إعلاميا، إثارة الرأي العام دون مبرر. إلا أن خبر اتفاق مائة عضو على الأقل في البرلمان العراقي مؤخرا على تقديم طلب للأمم المتحدة من أجل إعادة ترسيم الحدود العراقية - الكويتية المقرة أصلا من مجلس الأمن، يعيد الموضوع الشائك من جديد إلى بؤرة التوتر وإلى ساحة النقاش. ليس مهما ما إذا كان توجه بعض السياسيين العراقيين ذاك له قدرة على تغيير ما تم رسمه دوليا، المهم أنهم يفتحون بتوجههم ملفات ما كادت تغلق بين الشعبين، مما يشير إلى محاولة لتصدير المشكلات وأيضا كثيرا من غيوم الريبة.

في الأسبوع الماضي وبمبادرة كويتية شعبية، اجتمعت مجموعة من أهل الرأى نصفهم تقريبا من الكويتيين، والنصف الآخر من العراقيين. من أجل نقاش معمق بين الطرفين شعبيا حول القضايا المطروحة، وجميع من حضر ذلك اليوم النقاشي، حضره بصفته الشخصية، وتكلم بهذا المعنى الشخصي. من جملة ما ظهر على السطح توافق الجانب العراقي على أن النظام السابق، نظام صدام حسين، قد اقنع العراقيين بأن لهم ثلاثة أعداء لا يمكن مهادنتهم، الأول إيران، والثاني الأكراد، والثالث الكويتيين. لا أكتم فزعي من هذه المقولة، حيث إني كنت أعتقد أنه ربما العداء العراقي لإيران مبرر، كونها دخلت مع العراق حربا ضروسا قتل فيها مئات الآلاف من البشر، وربما أيضا العداء مع الأكراد له بعض التبرير لا كله، حيث استمر عداء سياسيا وعسكريا لبضعة عقود، ولكن أن يكون العداء مع الكويتيين، هذا ما فاجأني وأحزنني في نفس الوقت، ويبدو أن ذلك الزرع لا يزال خصبا في أذهان البعض.

كان السؤال للإخوة في ذلك اليوم النقاشي: إذا كنتم قد تجاوزتم العداء مع إيران، وربما مع الأكراد، فلماذا هذا العداء مع الكويت مستمر ومتجدد. بعدها سلمني أحد الإخوة العراقيين كشفا بنتيجة سير النقاش الذي دار، قبل يوم من الندوة، في البرلمان العراقي حول الوضع مع الكويت، وكان بعض الأعضاء يطلب التصعيد مع الكويت، حول قضية ميناء مبارك.

العراق اليوم تتلكأ فيه العملية السياسية، ومنقسم - مع الأسف - على نفسه، ويوشك الانسحاب الأميركي منه أن يخلف مشكلات سياسية وعسكرية وأمنية كبرى، ويواجه استحقاقات اجتماعية واقتصادية كبرى، ومع ذلك يجد بعض العراقيين من السياسيين الوقت اللازم لفتح ملفات قديمة، ربما من أجل التكسب السياسي، كون الكويت والكويتيين ما زالت صورتهم سلبية لدى الجمهور العراقي.

المسار السياسي المنتظر للعراق مفتوح على كل الاحتمالات، انفجار في الأفكار وانفجار في وسائل الإعلام، وانفجار في التشطر السياسي، كما أن النفوذ السياسي والاقتصادي من الجوار ظاهر بيِّن، خاصة من الجانب الإيراني والجانب التركي، وحكم الشراكة الداخلية متعثر، بل ومتنافر.

قيل في ذلك اللقاء النقاشي: على الكويت أن تضحي بأشياء بسيطة في سبيل تخفيف العداء. ولما سئل عن أي أشياء بسيطة يجب التضحية بها، قيل أن توقف إنشاء ميناء مبارك؟ وهو ميناء يقع على الأرض الكويتية!

السياسة العراقية ما زالت تخاض من خلال الآيديولوجيات، وعداء نظام صدام حسين للكويت لم يكن عداء شخصيا أو من نظامه فقط، لعله تسرب فهناك تحت الجسر مياه كثيرة لم تكتشف حتى الآن، ويتبين مدى عمقها في كل قضية تثار. العراق يسير باتجاه معاكس لما كل ما يتوقع المخلصون له، فهو يتوجه إلى محاصصة سياسية فئوية طويلة المدى، وربما إلى نظام شمولي يتفشى فيه الاستبداد من جديد، والاستبداد كثيرا ما يعود إلى الملفات القديمة من أجل إشاعة مشاعر الكره من الآخر ومع الجوار، خاصة الجوار الأصغر من أجل صرف النظر عن المشكلات الداخلية.

انتقد في الندوة النظام الاقتصادي العراقي، فهو ليس اقتصاد سوق كما يحاول أن يروج البعض، هو على حد تعبير أحد المشاركين لديه من السوق الحرة فقط حرية الاستيراد، ويبنى اقتصاد في العراق اليوم سماه أحدهم بـ«اقتصاد المحاسيب». تتعمق الشروخ العرقية والفئوية في العراق، وتزداد النخبة الجديدة غنى في الوقت الذي يفتقر الأغلبية من الشعب العراقي. فالعراق يتوجه إما إلى صراع اجتماعي منخفض الدرجة، أو ربما إلى حرب أهلية، في ظل العجز الكامل على التوافق السياسي. من هنا، فإن بعض سياسييه يأخذ بمبدأ تصدير المشكلات وخلق بؤر احتكاك، تصرف نظر المواطن العراقي عن مشكلاته ومحاولة توظيفها باتجاه عدو (مقدور عليه) إعلاميا وسياسيا على الأقل. إذا لم يكن من مصلحة العراق حذف إيران من الجغرافيا السياسية، كما يقول البعض، فإن الأولى عدم حذف الكويت من الجغرافيا السياسية أيضا.

لقد أظهرت جلسات الندوة تلك - على الرغم من انعقادها في جو رفاقي - حجم التباين في الصورة لدى كل من العراقيين والكويتيين، والأفكار القديمة التي ما زالت عالقة، كما أظهرت حجم القدرة على التكسب السياسي لدى البعض بإثارة موضوعات بين فترة وأخرى عطفا على ما كان. وإذا استمر بعض السياسيين في نكء الجروح كلما قربت إلى الاندمال، يعني أن الجروح عميقة بما فيها الكفاية وتحتاج إلى علاج أساسي وصريح، فإن كانت القضية اليوم هي ميناء مبارك يمكن أن تكون غدا أي شيء آخر، وما الحديث عن إعادة ترسيم الحدود إلا المقدمة.

آخر الكلام:

بعد يوم واحد من خطاب الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي أعلن فيه القرار التاريخي بدخول المرأة السعودية إلى مجلس الشورى ومشاركتها في الانتخابات البلدية، كنت على طائرة بين مدينتين أوروبيتين، وما إن استوت الطائرة، حتى سمعنا كركاب صوتا نسائيا هو القبطان يرحب بالمسافرين، شطح خيالي إن كنا سوف نشهد في حياتنا امرأة سعودية تقود طائرة، عندها سيكون نقاش قيادة المرأة للسيارة في التاريخ الغابر، تحية إلى الملك الإصلاحي من مواطن عربي عادي.