دولة «المجالس» في ليبيا

TT

لقد انتهت دولة «الجماهيرية» في ليبيا، وهي آفلة وليبيا الجديدة طالعة، ويعيش الليبيون في برزخ بين أفول وطلوع، بين غروب وشروق، أي في مرحلة الانتقال والبرزخ، أو مرحلة «دولة المجالس».

في هذه الدولة الجديدة التي لم تتشكل مؤسساتها الحكومية بعد، مجالس شتى، وكتائب عدة، ولكل مجلس غاية ولكل كتيبة هدف، وعلى الليبيين وحدهم تحديد أي مجلس سيطيب لهم الاتكاء عليه، لرعاية مستقبلهم ومستقبل أجيالهم.

أعلى هذه المجالس سلطة وإن لم يكن أقواها على الأرض هو المجلس الوطني الانتقالي الذي يرأسه مصطفى عبد الجليل، وهو شخص أبدى في تصريحاته ومواقفه السياسية رجاحة عقل وحسن تدبير ووضوح رؤية، والمجلس بشكل عام يجمع تكنوقراط ليبيين تعلم أغلبهم في بلدان الغرب المتحضرة، وهو الوحيد الذي يحكم بين أحزاب تماثله في التوجه السياسي في الدول العربية التي شهدت احتجاجات سواء تلك التي غيرت النظام كما في تونس ومصر، أو تلك التي تكاد، في سوريا.

إن توجه المجلس في الغالب هو توجه ليبرالي يسعى لتأسيس دولة مدنية جديدة ترسو بليبيا على بر الأمان بعد متاهة جازت الأربعين عاما في لجج بحر الظلمات حين كان القذافي ربان ليبيا الوحيد.

دون هذا المجلس في المكانة السياسية وإن لم يكن أقل منه في التأثير على الأرض المجلس العسكري في العاصمة الليبية طرابلس الذي يرأسه الزعيم السابق لـ«الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة» عبد الحكيم بلحاج، ودونه مجلس ثوار طرابلس الذي يرأسه عبد الله الزنتاني.

لقد ظهرت على السطح خلافات لم تشتعل بعد بين هذه المجالس ورؤسائها، وليس أدل على عمق هذه الخلافات من قرار تأجيل تشكيل الحكومة حتى انتهاء تحرير ليبيا بالكامل، وتشتمل هذه الخلافات على قضايا شديدة الحساسية من مثل علاقة الدين بالدولة، وهل تكون دولة دينية أم مدنية؟ وما الموقف تجاه الأمازيغ الذين بدأوا بالحديث عن حقوقهم التي قمعها القذافي ويطمعون في حلول تحسن من الاعتراف بهم كأقلية مهمة في البلاد تقارب ما جرى في المغرب والجزائر على سبيل المثال.

إن المسألة العرقية مهمة في ليبيا، والمسألة القبلية والمناطقية أهم، ولكن المسألة الدينية تظل هي الأعمق والأخطر، وتصريحات رؤساء المجالس آنفة الذكر تبين مدى الفجوة بينها تجاه هذه المسألة الأهم في الاختلاف القائم.

فقد صرح مصطفى عبد الجليل بوضوح حول الأسس التي يجب أن تقوم عليها الحكومة المؤقتة عندما قال: «إن النضال ضد القذافي ليس معيارا لدخول الحكومة»، مضيفا أن «هذه الأزمة يجب إدارتها من خلال رجال أكفاء بغض النظر عن الجهات التي قدموا منها»، وصرح بمثله رئيس المجلس التنفيذي محمود جبريل، حيث أكد «الكفاءة والخبرة والأهلية».

في المقابل، دعا رئيس المجلس العسكري في العاصمة طرابلس بلحاج إلى «منح الإسلاميين الليبيين حصة في السلطة، وحذر من أن الجماعات الإسلامية لن تسمح للساسة العلمانيين بتهميشها أو استبعادها في مرحلة ما بعد نظام العقيد معمر القذافي» كما نقل موقع «ليبيا المستقبل» عن صحيفة الـ«غارديان». وهو هنا يتحدث بصراحة عن «إسلاميين» و«جماعات إسلامية» في مقابل «علمانيين» يمثلهم المجلس الوطني الانتقالي.

وأقوى منه ما صرح به رئيس مجلس ثوار طرابلس الزنتاني في حوار مع هذه الصحيفة (الأربعاء 28 سبتمبر / أيلول) بقوله: «يجب أن نكون في الحكومة ويجب أن نحصل على خمسين في المائة من مقاعدها الوزارية»، وحين تحدث عن تشكيل «البعض» جيوشا صغيرة في طرابلس قال: «مهما كان ما يحصلون عليه من دعم فلن يكون كما كان القذافي، ومع ذلك أسقطناه، وبالتالي لا يتعين على أحد أن يساوره أدنى شك في أننا قادرون على فعل ذلك مجددا وفي أي وقت».

المجلس الانتقالي وإن كان عقلانيا، فإن ما يقابله هو مجالس مؤدلجة وجماعات إسلامية، ومقاتلون أشداء كانت تدفعهم آيديولوجيا إيمانية ويصرخون بهتفات دينية معلنة ومنقولة عبر كل وسائل الإعلام، تشكلت هذه المجالس عبر حرب أهلية ضروس، وتكونت قياداتها في أتونها، واليوم هذه القيادات تريد نصيبها من الدولة الجديدة، وتحدده بالرقم وتهدد باللجوء للعنف.

معلوم أن الحالة الليبية تختلف عن غيرها من الدول التي شهدت احتجاجات في العالم العربي، إن في عهد القذافي وما قبل الثورة عليه وما خلفه من تركة، وإن في المرحلة الانتقالية، وإن في مرحلة بناء الدولة. في عهد القذافي، الأمور كانت واضحة ويمكن تذكرها بسهولة لا عبر كتابه الأخضر ولا الأبيض ولا قصصه التي كان يكتبها، أو كانت تخرج باسمه، بل من خلال سياساته الداخلية والخارجية حين كان يستخدم في الداخل القمع المنظم، وحين كان يستخدم في الخارج الإرهاب، والشواهد كثيرة والأمثلة حاضرة في الذهن قريبة من الذاكرة. في المرحلة الانتقالية أو مرحلة الثورة عليه، شهدت البلاد حربا أهلية وصراعا مسلحا شرسا لا مكان للسلمية فيه، كان العامل الحاسم فيه هو دخول حلف الناتو في الصراع، أما في مرحلة بناء الدولة التي بدأت بالظهور من خلال نقاشات تشكيل الحكومة الانتقالية الحادة، فستزيد الأعباء وتكثر النزاعات ويطول الشقاق، وله أوجه كثيرة، من المناطقية والقبلية إلى العرقية إلى الإثنية، إلى الإسلامية، إلى الإسلامية العنفية.

إن تعدد هذه المجالس وكثرتها وانتشارها، وتعدد ما يقل عنها من سرايا أو كتائب، هو أمر يجب أن يثير القلق حقا، وحين تخرج تصريحات رؤساء هذه المجالس لتتحدث عن تقسيمات آيديولوجية وتهدد وتتوعد، وفي ظل فوضى عارمة للسلاح شراء وتصنيعا وانتشارا - فإن الخطر يكون أكبر والخوف أعظم.

يجب على ليبيا أن تجد طريقها للمستقبل، بعيدا عن فوضى السلاح وأمراء الحرب، وأن تتحول من «دولة المجالس» إلى الدولة المدنية الحديثة، ولكن المشهد السياسي يشير إلى أن هذه المهمة شديدة الصعوبة، وربما كان نقيضها - للأسف - أقرب للواقع على الأرض.