حدود النموذج التركي

TT

ثمة سجال يجري في المنطقة العربية منذ صعود نجم حزب العدالة والتنمية وتوليه مقاليد الحكم سنة 2002، حول هوية هذا الحزب أولا، ثم مدى صلاحية النموذج التركي الذي يبشر به، للمنطقة العربية والإسلامية ثانيا، وقد جاءت زيارة رئيس الوزراء الطيب أردوغان إلى دول «الربيع العربي» لتبرز هذا السجال أكثر من أي وقت مضى.

فقد انبرى فريق من الإسلاميين للتأكيد على أن حزب العدالة والتنمية هو حزب إسلامي ينحدر من سلالتهم، وإن كانت الضرورات المحلية فرضت عليه شيئا من «التقية السياسية»، وربما يشاركهم في ذلك بعض العلمانيين الجذريين من العرب، الذين لم يترددوا في القول إن هذا الحزب يضمر عكس ما يظهر، فهو علماني الخطاب ولكنه «أصولي» الجوهر، في حين ذهب آخرون على الجهة المقابلة إلى القول إن حزب العدالة والتنمية حزب علماني خالص، وهو يقدم من هذه الناحية نموذجا لما ستكون، أو يجب أن تكون عليه الأحزاب الإسلامية مستقبلا، التي حتما ستفرض عليها إكراهات العصر وضرورات السياسة ابتلاع العلمانية ولو كان ذلك عن مضض وعبر الحقن التدريجي.

لا أريد أن أخوض كثيرا في مسألة التنبؤات القاطعة التي لا يمكن الركون إليها في مجال الاجتماع السياسي، كما أنني لا أريد التوقف كثيرا عند مسألة نوايا أعضاء حزب العدالة والتنمية وما يعتمل في بواطنهم، لأنني أعتبر السياسة تقرأ من خلال الأفعال والمسلكيات أكثر مما تقرأ من خلال ما يضمره الفاعلون السياسيون من نوايا طيبة أو خبيثة. وما يمكن قوله هنا هو أنه يتوجب فهم قادة حزب العدالة والتنمية على النحو الذي يقدمون به أنفسهم، وما يعلنه هؤلاء إلى حد الآن هو أنهم يمثلون حزبا وسطيا محافظا، وهذا يعني أنهم ليسوا بحزب إسلامي من سلالة الإسلام السياسي وما هم بالحزب العلماني أيضا.

الحقيقة أن حزب العدالة والتنمية هو أقرب لأن يوصف بأنه حزب براغماتي محافظ، لا يشغل نفسه كثيرا بالآيديولوجيا بقدر ما يهتم بمبدأي النجاعة السياسية والاقتصادية، كما أنه ليس في أجندته مسائل من قبيل الشريعة والدولة الإسلامية وما شابه ذلك، ولا أظن أن في الأمر تلبيسا أو مواربة بقدر ما يعبر عن توجهات تم اتباعها بناء على قراءة نقدية لتجربة الزعيم الإسلامي المرحوم نجم الدين أربكان. لا شك في أن هذا الحزب قد قام بمراجعات عميقة انتهت به إلى قبول النظام العلماني التركي وعدم مصادمته، مع العمل على تعديله باتجاه أن يكون أكثر انفتاحا وتسامحا، وفعلا يحسب للإسلاميين الأتراك أنهم تمكنوا في بضع سنوات من التحول من علمانية أتاتوركية صلبة وتدخلية باتجاه علمانية أكثر ديمقراطية وتسامحا مع الدين ومؤسسات المجتمع المدني، بما أتاح إطلاق طاقات المجتمع المعطلة والمقموعة لعقود طويلة، كما أتاح لهم الانفتاح على قطاعات اجتماعية جدية خارج المساحة الانتخابية التقليدية للإسلاميين.

وهنا نأتي للحديث عن صلاحية النموذج التركي ومدى قابلية استنساخه في العالم العربي.

من المهم لفت الانتباه إلى أن هنالك خصوصية ثقافية وسياسية تركية لا يمكن تعميمها على العالم العربي بأية حال من الأحوال، فالعلمانية التركية التي بدأت بالغة القسوة والجبروت وكانت محمية بمؤسسة الجيش الضخمة قد تحولت بعامل الوقت إلى مرتكز عام للشرعية السياسية، وفرضت نفسها حتى على أشد المناوئين لها، وعليه لم يكن بمقدور أي قوة سياسية أن تدخل المنتظم السياسي الرسمي من دون التكيف مع هذه الحقيقة الصلبة. لقد بدأ قادة حزب العدالة والتنمية من حيث توقف أستاذهم أربكان، ولم يريدوا التمادي في مواجهة المؤسسة العسكرية إلى النهاية، بيد أنهم مع ذلك لم يكونوا جامدين، بل عملوا ما أمكنهم على تعديل الوضع بصورة تدريجية بهدف «تشذيب» العلمانية التركية وجعلها أكثر تسامحا وديمقراطية. لقد أُرهق الإسلاميون الأتراك جراء معاندة علمانية جذرية وعسكرية مثلما أُرهقت الدولة العلمانية جراء صدامها المستمر مع الهوية الإسلامية وتيار الإسلام السياسي، وهكذا انتهت الأمور بعامل الوقت إلى تسوية غير معلنة، تنازل بموجبها الجيش عن تدخله المشط في الحياة السياسية والثقافية، وتنازل الإسلاميون باتجاه قبول أسس الدولة التركية الحديثة.

بيد أن ما جرى في تركيا يعتبر شيئا استثنائيا جدا في الرقعة الإسلامية، وربما يعود هذا إلى الظروف الخاصة التي صاحبت ولادة تركيا الحديثة في عشرينات القرن الماضي بما لا نظير له في العالم العربي، ومن ذلك محاولة فرض نمط من العلمنة الفوقية في إطار الهالة السحرية لكمال أتاتورك وضغط النماذج التحديثية الفاشية والنازية وقتها، ولكن ما بين زمن أتاتورك وزمن أردوغان جرت مياه كثيرة في المياه التركية، ومن حولها المياه العربية الأوسع. ما تمكن أتاتورك من تمريره في غفلة من أمر الأتراك وفي سياق انتصاراته السياسية والعسكرية الصاخبة، ليس من اليسير تمريره اليوم في عالم عربي يسير نحو الإحيائية الإسلامية أكثر من أي وقت مضى.

أما إذا تحدثنا عن طبيعة الدولة في العالم العربي وعلاقتها بالإسلام ومصادر الشرعية ونظامها التشريعي، فإن الأمور تبدو مغايرة إلى حد كبير للحالة التركية. لا توجد دولة عربية واحدة بما في ذلك تلك الأكثر تحديثية وعلمنة جعلت من مبدأ العلمانية مصدرا للشرعية بصورة مجاهرة ومعلنة، بل بقيت مساحة الاختلاف بين الدول العربية تتراوح بين التنصيص على أن الشريعة هي مصدر التشريع وبين التنصيص على أن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع، وحتى الدستور التونسي نفسه الذي يعتبر أقل الدساتير العربية «أسلمة»، فقد نص في فصله الأول بأن تونس دولة حرة مستقلة، الإسلام دينها والعربية لغتها، ولا أتصور أن هنالك دولة عربية واحدة تستطيع أن تخرج اليوم عن هذا الحد الأدنى المتفق حوله وإلا عرضت نفسها للاهتزاز وقطعت غصن الشجرة الذي تقف فوقه.

إذا استثنينا بعض المجموعات الآيديولوجية الطائشة التي تسعى إلى إقحام مسألة الهوية في قلب الصراع، فإن جوهر التجاذب يدور حول مسألة الدمقرطة أكثر مما يدور حول مطلب العلمنة، وما إذا كانت الدولة العربية مستعدة للنزول عند الإرادة الشعبية العامة، والتخلص من نزوعاتها التسلطية سواء كانت مغلفة باسم الإسلام أو التحديث والعلمنة، وعليه فإن الحديث عن نموذج تركي من هذه الناحية يعبر عن رغبات أكثر مما يعبر عن حقائق صلبة.

الأرجح أن يبقى الاتجاه العام للدولة العربية وخياراتها المستقبلية محكوما بالوجهة التي ستأخذها المجتمعات العربية عامة، وبحركة التدافع بين مختلف القوى السياسية والاجتماعية، وليس ثمة ما يثبت أن قوى العلمنة ستكون هي الأعلى صوتا وأثرا في السنوات وحتى العقود القادمة. وربما سيجد العالم الإسلامي، والعربي منه على وجه الخصوص، نفسه في حالة تجاذب بين أنماط وشرعيات إسلامية متعددة، بين إسلام معتدل وآخر متشدد، وبين إسلام ديمقراطي، وإسلام تدخلي، وبين إسلام ليبرالي وآخر محافظ، وهكذا، ولن يكون الصراع الحقيقي بين الأسلمة والعلمنة، لأن القوى العلمانية هي من أصلها ضعيفة المنبت ومحدودة الامتداد.

ما ذكره أردوغان بشأن العلمانية بأنها لا تعني إبعاد الدين بل أخذ مسافة بين الأديان، هذا أمر صحيح إلى حد ما، بيد أن هذا التفسير والشرعنة يصلح للساحة التركية أكثر مما يصلح للعالم العربي، وهذا الرأي يمكن قبوله في حدود التجاذبات التركية الداخلية ولكنه قطعا لن يجد الكثير من المتلقين في العالم العربي.

ربما ما يحتاج العالم العربي تعلمه من التجربة التركية يتعلق بالحزب أكثر منه بالدولة، أي كيفية الانتقال من أحزاب عقائدية شمولية تشغل نفسها بقضايا الهوية وأسلمة الدولة وأنماط الحياة الفردية للناس، أكثر من اهتمامها بتحسين الأداء السياسي والاقتصادي، إلى أحزاب اهتمامها بالمسائل الدينية العقائدية وانشغالها بشؤون المجتمع العامة، أكثر من الاهتمام بمطلب الدولة الإسلامية المثالية التي لن تتحقق.