الشورى والمحليات وذلك القرار الحكيم

TT

ستجد تعريفات للسياسة ربما بعدد المشتغلين بالسياسة فوق الأرض، وربما أيضا تكون كلها صحيحة، بمعنى أنها تعبر بصدق عن جانب من جوانبها، غير أنني أفضل أن تكون السياسة، هي القدرة على اتخاذ القرار القادر على خلق واقع جديد يتسم بأنه طبيعي وقابل للنمو والاستمرار. وهو الاستمرار الذي يجب أن يتحول بالرعاية والاهتمام إلى الازدهار. وهذا ما ينطبق بدقة على القرار الذي اتخذه عاهل السعودية الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي يعطي فيه الحق للمرأة بعضوية مجلس الشورى كما يعطيها الحق في الترشح لعضوية المجالس المحلية. هو قرار سياسي صحيح ومفرح. وأنا أحب الفرحة مثل كل الناس، غير أنني أعتقد أن الفرحة، مفرحة لي أكثر من غيري، لأنها تتيح لي أن أكتب بفرحة وهو أمر نادر الحدوث هذه الأيام التي نحاصر فيها بالأخبار القادمة من سوريا واليمن وليبيا، بالإضافة بالطبع إلى أخبار النكد المحلي.

للوهلة الأولى ستشعر بالارتياح لأن المرأة حصلت على حق لها، أي إنه كانت هناك أرصدة للمرأة مجمدة لحساب الدولة، ثم قررت الإفراج عنها. وهو بالضبط ما يزعج خصوم المرأة بعد أن يروا في هذا القرار أن المرأة انتزعت منهم النصر في معركة مهمة في حرب لا وجود لها إلا في مخيلتهم، غير أنني لست أرى الأمر كذلك، الأمر في حقيقته لا يتعلق بحقوق المرأة في السعودية، بل بحقوق الدولة السعودية ذاتها. الرصيد المجمد والممنوع من الصرف كان رصيد الدولة، كيف يكون عند الدولة مواطنون يتسمون بالعلم والكفاءة وتعجز عن الاستفادة منهم لأسباب بات من المستحيل فهمها في عالمنا المعاصر؟

خصوم المرأة موجودون في كل الحضارات وكل الديانات، وحتى منتصف القرن الماضي كانت النساء في بلاد أوروبية عديدة، يحصلن على أجر أقل من الرجل عند أداء نفس العمل وينتجن نفس القدر من الإنتاج. هي خصومة تغطي قدرا هائلا من الكراهية والرغبة في العدوان على الجنس الآخر. أريدك أن تفكر في أصل هذه الكراهية وطبيعة هذا العدوان. إنه الخوف القديم من الأم في مرحلة الطفولة، وخاصة عندما يكون سيئ الحظ، نشأ في بيت تسود فيه القسوة والتزمت. حيث ينزل عليه العقاب المفاجئ من الأم بالضرب أو بنظرة غضب واستنكار هائلة يتزلزل لها كيانه الضعيف عند ارتكابه خطأ لا يعرف هو أصلا أنه خطأ، حيث لم تتشكل بعد المقاييس بداخله. العقاب المفاجئ وغير المفهوم هنا يعطل نضجه ويسير به في طريق الخوف والنفاق، لن يرتكب الخطأ مرة أخرى ليس لأنه اكتشف ما هو صحيح بل لكي لا يحرم نفسه من حنان أمه ورعايتها له. في هذه اللحظات يبدأ عداؤه للمرأة الذي سيصاحبه طوال عمره. ولكي يُكسب هذا العداء شرعية أمام ضميره وفي محيطه لا بد أن يخفيه تحت طبقة قوية من الأفكار المستمدة من تعاليم السماء والأرض. عندما تقابل شخصا يعترض على قرار يعطي للمرأة حريتها في مجالات العمل والسياسة وحقوق الإنسان، فاعلم، أعزك الله، أنه ما زال يشعر بالخوف من أمه، وأن وجود المرأة في حد ذاته، وخاصة عندما يكون هذا الوجود متميزا، يجدد لديه الشعور بخوفه القديم منها. هو لم ينضج بعد بما فيه الكفاية ليصبح إنسانا طبيعيا ومواطنا صالحا للتعامل بعدالة مع بقية المواطنين في المجتمع.

وجود المرأة في مجلس الشورى هو أمر طبيعي وليس واقعيا جديدا عليها، فهي عملت وتعمل في مجال الاستشارات التي يعتمد عليها المجلس بالطبع في إعداد دراساته وقراراته. أما حق الترشح وخوض الانتخابات وعضوية المجالس المحلية فهو بالفعل يمثل التحدي الحقيقي للمرأة في السعودية، وهو أيضا الأقرب إلى طبيعتها، أليس المجلس المحلي في القرية والمدينة هو البيت؟ وهل هناك من هو أقدر من المرأة على إدارة البيت وترتيبه وتنظيفه؟

إذا كانت المعدة هي بيت الداء كما يقال، فالمحليات أيضا هي بيت الداء والدواء معا، ومن التعبيرات الشهيرة في مصر جملة «الفساد في المحليات للرُّكب» التي قالها زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية السابق في مصر، عندما قالها كان يلعب دور المعارض الشجاع، لذلك لم يتنبه إلى أن وظيفته بالتحديد هي التصدي لهذا الفساد وإزالته في مكانه لمنعه من الزحف إلى رؤوس النظام نفسه.

أريدك أن تنظر للمرأة من منظور جديد بدون أن تقوم بتسميع موضوع الإنشاء الذي حفظناه جميعا عن ظهر قلب، وهو أنها الأم والزوجة والابنة والحبيبة، أريد أن أذكرك بأنها المصنع الذي يتخلق بداخله البشر ويكتمل نموهم، وأنهم بعد خروجهم إلى الدنيا بكل ضعفهم وهشاشتهم، يظلون في حمايتها ورعايتها إلى أن ينضجوا بما فيه الكفاية ليخرجوا للمشاركة في صنع الحياة والحفاظ عليها. ترى، هذا المخلوق المدهش العظيم، هل تراه عاجزا عن حماية المجتمعات في أي مجال من مجالات السياسة؟.. ترى، هل من الصعب أن نجد بيننا كوندوليزا رايس وهيلاري كلينتون؟

المحليات هي القاعدة في أي بلد، وبقدر صلابة هذه القاعدة وقوتها تكون قوة المجتمع وقابليته للالتزام بالقوانين، وربما تمر شهور قليلة أو حتى سنوات لنكتشف أن هذه المحليات أصبحت معامل جيدة لصنع الكفاءات في كل المجالات، وبذلك تتسع مساحة الاختيار أمام القيادة السياسية. مشاكل المحليات ليست نظرية، هي عملية وواقعية ومن المستحيل العثور عليها في الكتب ومدرجات الجامعة وقاعات البحث العلمي، إنها مشاكل المواطنين اليومية، وهي بحاجة إلى حلول عادلة سريعة ملتزمة باللوائح والقوانين، هنا يكون دور المرأة هو الملائم والصحيح، في كل مكان على وجه الأرض توجد امرأة تحب الناس ويسعدها أن تساعدهم في حل مشاكلهم، وعادة هي معروفة لأهل حيّها ومدينتها، هذه المرأة ستجد في عضوية المحليات إطارا قانونيا وإداريا لها يمكنها من مساعدة المواطنين، ويعطي لجهاز الدولة وللناس أيضا، المزيد من القدرة على التعرف على مزايا الأفراد في جهازها الإداري.

التقدم ليس أحد الخيارات بل هو الخيار الوحيد، والتخلف ليس عيبا اجتماعيا بل هو جريمة على رجال الدولة التصدي لها بلا خوف أو تردد. لقد جاء الوقت الذي تبدأ فيه الدولة السعودية في تحصيل أرباحها عن المليارات التي أودعتها في بنك الزمن وخصصتها لتعليم الشبان من الجنسين لسنوات طويلة داخل البلاد وخارجها.

الشرف الإنساني يمنعنا من التنكر لحقيقة أن قيمة المجتمعات تقاس بموقفها من المرأة، لا يجب أن تغيب هذه الحقيقة عن أذهاننا، حقيقة أخرى، في اللحظة التي نكف فيها عن التقدم إلى الأمام في طريق الحضارة ولو للحظات، نعطي للتخلف المزيد من القدرة على النيل من كل ما حققناه.