العراق: الفساد بأقنعته المتعددة

TT

لا شك أن واحدا من أكبر التحديات التي تواجه العراق اليوم هو الفساد المتفشي في مفاصل الدولة والمؤسسات، والمتسلل إلى كل زاوية في الإدارة وأجهزتها. السياسيون العراقيون من حكوميين ومشرعين يقرون بتلك الحقيقة، لكن كلما زادوا اعترافا بها وبخطورتها بدا أن الظاهرة تزداد نموا. لا يمكن مكافحة الفساد بلعنه، فقوته تكمن في قدرته على التخفي والمواربة، الفساد لا يسمي نفسه فسادا وإلا كان من السهل الكشف عنه، إنه يتسمى بأشياء أخرى كثيرة تعرفها طبقتنا السياسية جيدا. أول خطوة لمحاربة الفساد في العراق لن تأتي عبر إرسال دوريات الشرطة لاعتقال موظفين من الدرجة الثانية، مع أهمية الحزم القانوني، بل عبر كشف الأقنعة عما هو فساد ولكنه يحمل اسما آخر.

أحد أهم أسباب الفساد يكمن في طبيعة الاقتصاد العراقي المعتمد بشكل شبه مطلق على النفط. الكثير من العراقيين يتذكرون بحنين زمنا لم يكن الموظف فيه يرتشي، ولا الأحزاب تسرق أموال الدولة، وأجمل ما يتذكرونه عن عبد الكريم قاسم مثلا هو أنه عند اغتياله لم يكن يمتلك بيتا باسمه، ولا عائلة ترثه، ولم يكن في جيبه غير دينار وربع الدينار. هذه الأمور لم يعد يمكن التفكير فيها ليس فقط لأن الناس تغيروا، بل لأن الدولة أصبحت أكثر ثراء بسبب النفط، والمجتمع بات أكثر تعلما، وبالتالي صار التنافس أشد شراسة، والسياسيون صاروا أكثر عددا وأوسع حيلة.

سياسيو العهد الملكي كانوا يتعاملون مع ميزانية لم تتجاوز في معظم الوقت ثلاثين مليون دولار، على الأقل قبل أن تتدفق عائدات النفط في الخمسينات. أما اليوم فالطبقة السياسية تتعامل مع أكبر ميزانية في تاريخ العراق، نحو 80 مليار دولار. في معظم الوقت كانت الطبقة السياسية محدودة وصغيرة العدد، وكانت هناك طبقة اقتصادية قوية من التجار وملاك الأراضي تمتلك القدر الأكبر من الثروة، أما اليوم فقد صارت موارد النفط هي مصدر الثروة الوحيد، الأمر الذي يفسر حجم الطبقة السياسية الكبير، لأن علاقة الاقتصاد بالسياسة انقلبت، صارت السياسة هي التي تجلب الثراء الاقتصادي وتقوي السياسيين والأحزاب، أكثر مما يفعل الاقتصاد.

يأتي نظام المحاصصة اليوم ليقوم على فكرة أساسية هي توزيع السلطة والأموال بين القوى السياسية. وتلك القوى تتنافس وتتصادم وتتحالف من أجل تحسين فرصها عبر تقوية سيطرتها على المؤسسات والوزارات التابعة لها، واستخدام التوظيف في أجهزة الدولة من أجل توسيع نفوذها وإدخال أتباعها أو المرتبطين بها في تلك الأجهزة. المشكلة أن القطاع الخاص في العراق ضعيف ولا يكاد يشكل قيمة مهمة من الاقتصاد، وبالتالي صار العمل والتوظيف في الدولة هو أبرز وسيلة لاستيعاب البطالة ولتحسين المستوى المعيشي للمواطن. لقد بتنا نسمع أن أحد مصادر تذمر الكثير من الشرائح الاجتماعية هو عدم الحصول على وظيفة حكومية، يعني ذلك أن هناك ثقافة اجتماعية مبنية على تصور أن الوظيفة الحكومية هي القناة الوحيدة لتحسين الدخل وبالنتيجة تعزيز المنزلة الاجتماعية. انعكس ذلك على طريقة إدارة الدولة، حيث صار على الحكومة أن تخصص مزيدا من الوظائف لاستيعاب البطالة سنويا، في جهاز حكومي وبيروقراطي متضخم أصلا. النتيجة كانت نسبة هائلة من البطالة المقنعة وإهدار الأموال وأيضا التمييز الاجتماعي، فحيث إن الوظيفة لم تعد تقوم على الكفاءة بقدر اعتمادها على الواسطة والمحسوبية، فما ذنب أولئك الذين لا يحصلون عليها لأنهم لا يرتبطون بأي حزب أو شخصية نافذة؟

ضخامة الجهاز البيروقراطي عززت من عدم كفاءته، فتكديس الموظفين بلا عمل محدد يعني صعوبة السيطرة على نشاطهم وإدارة المؤسسة بطريقة كفوءة، فضلا عن حقيقة أن كثيرين ممن هم في موقع الإدارة والتخطيط ليسوا أصحاب كفاءة أيضا. وفي النهاية فإن التوظيف في الدولة عبر العلاقات الحزبية ونظام المحاصصة هو نوع من الفساد الذي لا نسميه فسادا.

غياب سلطة البرلمان الرقابية هو الوجه الآخر للمشكلة، فحيث إن أحزاب البرلمان جميعها داخل السلطة الحكومية وتتوزع الوزارات فيما بينها، لم يعد أي منها يمتلك ما يكفي من المصداقية لمحاسبة مسؤول حكومي مقصر ما دام الحساب يمتد لمسؤولين تابعين لنفس الحزب. معظم أعمال المحاسبة حتى الآن شابها نوع من الانتقام والميل للتسقيط السياسي وتسجيل النقاط على الخصوم. إنه أمر بديهي، لا يمكنك أن تكون صاحب السلطة والرقيب عليها في نفس الوقت، ولا مصداقية لمن يحارب فساد زيد ويغطي على فساد عمرو. ما يسمى عندنا بالشراكة هو أيضا نوع آخر من الفساد، لأنه يعني مشاركة جميع القوى السياسية في اقتسام السلطة والموارد، وبالتالي الاتفاق ضمنيا على أن لكل طرف ساحته الخاصة به التي لا يمكن لطرف آخر أن يتدخل فيها. للأسف، حتى الاعتراض على هذا النظام غالبا ما ينطلق من عدم رضا بعض الأطراف بحصتها أكثر من كونه منطلقا من رغبة حقيقية بالتغيير.

واحد من الإنجازات القانونية في عراق ما بعد 2003 هو تشكيل هيئات رقابية مستقلة ذات سلطة محاسبة، مثل هيئة النزاهة ودوائر المفتشين العامين. لكن التطبيق يختلف عما كتب على الورق، فمن يعملون في تلك المؤسسات ليسوا أشخاصا غير مرئيين، بل الكثير منهم بمن في ذلك قضاة ومحامون، يرتبط بهذا الطرف السياسي أو ذاك، ولدى بعضهم طموحاته السياسية أيضا. من الصعب ضمان استقلالية تلك المؤسسات وحياديتها عندما يغدو موضوع الفساد ذاته سياسيا، فكشف أي قضية فساد لأي مسؤول لا بد أن يدفع كتلته السياسية إلى الاستنفار والرفض والضغط بالضد. استقلالية المؤسسات لا يضمنها نظام ميزته هي تغلغل المحاصصة التي باتت بدورها قوة جبارة يصعب كبحها. إنها تتسلل إلى كل فراغ ممكن، فتعيد تشكيل الدولة وقواعدها بطريقة خاصة قائمة على ديناميكية بثلاثة عناصر: المال النفطي، الأحزاب السياسية، الفساد المنظم عبر المحاصصة. بهذا المعنى يمكن القول إن الفساد لم يعد عارضا طارئا، بل بات جزءا بنيويا من النظام السياسي القائم على المحاصصة، وهو كالمحاصصة نفسها قادر على التقنع بوجوه جميلة وعبارات براقة مثل المشاركة والوحدة الوطنية وعدم التفرد.