وأنا أيضا وجدتها!

TT

كنت أرى محل البن البرازيلي مثل «الحمام التركي» الذي يستحم الناس في بخاره.. لكن بخاره من البن والشاي.. حمام يغسل الرأس ويغلي الفكر وينضج المعاني..

كنت على بابه أحس وكأنني مثل أحد أبراج الحمام.. والمعاني حمام وغربان وصقور.. كنت أقف كأنني «خيال المآتة» - أي العصا التي يضع عليها الفلاحون جلبابا لإنسان في حقل القثاء، فتهرب الطيور الجارحة فلا تأكل ثمار الأرض.. ولم يكن على أرضي شيء أخاف عليه.. وإنما كنت خيالا يستدعي الخيال ويستدرج الصقور من كل نوع.. وليست في أبراجي طيور جارحة.. طيور فقط.. فأنا الذي أضع ريشها وأنزع أنيابها ومخالبها.. وأطلقها حماما بريا أو حماما زاجلا.

وعلى باب البن البرازيلي أكتب كل ما أشعر به.. فأنا واقف في مكتبي.. وأنا مع الناس ولست معهم.. أفتح عيني ولا أرى، أنصت بأذني ولا أسمع، أزاحم ولا هدف، وأشرب ولا طعم.. إنني فقط ألقي في داخلي بالوقود وأتزود بالزاد.. وأنتظر أصدقائي وأعاتبهم أنهم تأخروا، ثم أغيب عنهم في أبخرة البن والشاي.. وأرى الوجوه الحلوة تروح وتجيء وأبتسم.. أو أرد على ابتسامة.. وأحيانا أتابع بعيني الجمال والدلال خطوات ثم اتجه ناحية أخرى.

وعرفت كيف أن أرخميدس خرج من البانيو يصرخ وهو يقول: «وجدتها.. وجدتها».. وكان في حيرة علمية، فهو يريد أن يعرف كيف يكون حجم الإنسان.. واهتدى إلى أن حجم الإنسان يساوي كمية الماء التي تخرج من البانيو إذا دخل هو فيه.. ولا أدعي أنني اكتشفت مثل الذي اكتشف.. لكن من المؤكد أنني أحسست كثيرا وتخيلت.

وحتى بعد أن تنقلت بين القارات الخمس كنت أعود إلى هذه المسافة الضيقة من الأرض بباب البن البرازيلي.. وعلى هذه المساحة الضيقة أتلفت حولي كأنني مرصد فلكي له عدسة ضخمة تجوب الفضاء الخارجي وهي لا تبرح مكانها.. أو كأنني العين نفسها الصغيرة في محجرها ترتاد الدنيا حولنا وهي في مكانها.. كأنني الرأس الذي استقر على الكتفين، لكنه وسع الأرض والسماء، ما كان وما سيكون من مخلوقات الله.. كأنني القلب الصغير الغارق في الظلمات والدم، لكنه مصدر النور والحب والرحمة.

كان دمي من البن البرازيلي.. لكن هذا الدم الأسود هو مصدر النور والحور.. مصدر الأفكار والابتكار.. هو الذي يمدني بالقوة الهائلة لأرى الناس ذهابا وإيابا وأتابع باللهفة والرغبة كل خد جميل وشفة وصدر وساق.. سنوات على هذا الباب.. كأنني على باب جهنم أو على باب الجنة.. أو كأنه مثل أبواب الفنادق دوار.. مرة إلى الجنة ومرة إلى النار.. مرة إلى الداخل ومرة إلى الشارع.

وكان يومنا مثل البن يبدأ ساخنا مرا.. ثم ينتهي فاترا فلا نشعر به.. ويتجدد مع البن نشاطنا وحيويتنا.. لا أظن أنني كنت أعرف طعم البن.. أو طعم الشاي.. لأن البن فكر ألقي به في طاحونة عقلي وندور معا.. هواء أدفعه إلى مروحة خيالي وندوخ معا.. ونضيع!