بعد الربيع العربي.. الإسلاميون والمختلفون في الدين

TT

الموقف تجاه الأقليات الدينية، كان ولا يزال، أحد المعايير المهمة، لتقييم توجهات وأداء وممارسات الحركات السياسية والتوجهات الفكرية، وفي مقدمتها التيار الإسلامي الحديث، بسبب الشكوك المثارة حول طروحاته فيما يتعلق بمسألة الهوية والمواطنة وموقع غير المسلمين في النظام السياسي والقانون الإسلامي.

تاريخيا (كما هو معلوم) كان العالم الإسلامي يتسم بالتعددية الدينية. ومقارنة بما هو موجود في العوالم الأخرى، يجسد مرحلة متقدمة في التعايش والتسامح الديني، على الرغم من كل ما أصاب التجربة من غبش أو انحراف من هنا أو هناك جراء سياسات خاطئة وظالمة، من قبل هذا السلطان أو ذاك الأمير. لأنها في مجملها وفي المحصلة النهائية وحسب المقاييس التاريخية، تعتبر ناجحة، وتشكل إحدى الصفحات الناصعة لتاريخ الحضارة الإسلامية.

التذكير بهذه الخلفية المشجعة من حيث المبدأ، من المفروض أن يساعد على تبلور موقف عصري منفتح وحضاري، تجاه المختلفين في الدين. ذلك أن الجهود الحديثة لبناء عيش مشترك بين الأديان المختلفة، وخاصة بين أتباع الأديان السماوية، لا تبدأ من الصفر، ولا تمثل بدعة بالنسبة لتاريخ المنطقة. ولكن على الرغم من هذا التميز الحضاري والتاريخي والانفتاح الديني المنبثق من النصوص التأسيسية للإسلام، والموقف المبدئي لكثير من الفقهاء الكبار، فإن الأوضاع الجديدة التي خلقتها الحداثة السياسية والقانونية، والتغيرات التي طرأت على موقع الفرد في النظم السياسية المعاصرة، ومتطلبات المواطنة المتساوية في ظل نموذج «الدولة - الأمة» الحديثة، كل ذلك يتطلب تجديد الرؤى والخطاب الفقهي والسياسي وإعادة تعريف لبعض المفاهيم والأحكام، ومن ثم النظر إلى الموضوع من زاوية جديدة مشبعة بروح الإسلام، ومراعية لما يمليه العصر من واجبات عالمية واحترام معايير حقوق الإنسان والمواطن.

لكن على الرغم من كل ما بذله ويبذله بعض العلماء والمفكرين الإسلاميين من جهود فكرية وعلمية لبلورة نظرة جديدة حول موقع المختلفين في الدين في البلدان الإسلامية، في ظل طبيعة إدارة الدولة والسلطة في الدولة الحديثة وكيفية تشكيل ووظائف الجيوش المعاصرة واختلاف المركز القانوني والحقوق السياسية بين هذه النموذج من الدولة، وما هو موجود تاريخيا في ظل الإمبراطوريات والإمارات، فإن المسألة إلى الآن تحتاج إلى تأصيل أعمق في الوعي الإسلامي الحركي والشعبي لضمان نجاح إرساء دعائم نظام ديمقراطي عادل معاصر.

وهذا يقتضي حسما فكريا لصالح تعميق مبدأ التسامح الديني من خلال الاحترام الكامل لمبدأ المواطنة المتساوية، وتفعيل المبدأ الأصولي الذهبي «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» بما ينسجم مع متطلبات الحداثة السياسية وإحقاق العدل من خلال تجربة حضارية وسياسية حديثة، بإمكانها تقديم نموذج تطبيقي، وواقع ميداني، وترجمة المكتسبات الفكرية والتجديد النظري إلى علاقات، وحقوق، وضمانات دستورية قانونية وسياسية. ذلك حتى لا تبقى هناك أي فراغات حقيقية لتوجيه النقد اللاذع للتيار الإسلامي أو اتهامه بعدم قناعته بالحرية الدينية وعدم التميز بين المواطنين بسبب الدين. وكل هذا يشكل جزءا مهما من الامتحان السياسي والأخلاقي للإسلاميين بعد الثورات العربية.

وربما لا نتهم أحدا جزافا إذا ذهبنا إلى أن هناك أكثر من وسط سياسي أو جهة تدفع بالأمور لخلق مشكلات بهذا الصدد، لتشويه صورة الإسلاميين، بل جميع قوى التغيير الثوري، والتقليل من مكتسبات الثورات ونجاحاتها، جاهدا لربط الأمن الديني لغير المسلمين في البلاد الإسلامية (خاصة في البلدان التي انتفض فيها الجماهير، لاسترداد حقوقهم المسلوبة من قبل المستبدين) بالأنظمة المستبدة المنهارة.

لذا على كل قوى التغيير، وخصوصا الإسلاميين منهم، السهر ورصد كل التحركات أو الاختراقات المشبوهة بهذا الصدد، وعدم التهاون مع أي فكر، أو خطاب، أو سلوك متطرف بثوب ديني، أو مؤامرة مدبرة من قبل هذه الدائرة أو ذلك، بغية تقديم صورة ناصعة للتسامح الديني والتعايش السلمي والأخوي بين أتباع الديانات، ومن ثم ترسيخ الوحدة الوطنية وتحصين التيار الإسلامي والثورات التي روتها دماء آلاف الشهداء والجرحى وغذتها عذابات عشرات الألوف من المواطنين الشرفاء ناضلوا ضد كل فكر أو ممارسة دخيلة ومنافية لروح الإسلام العظيم ومكتسبات الثورة الفكرية الحديثة، وذلك لنبذ رذيلة التعصب وتعميق فضيلة العدل والتسامح.

* كاتب ووزير كردي سابق