«أخوة» لبنانية زائفة.. للإيجار والاستئجار

TT

«التخلي عن الأوهام أكثر حكمة من التمسك بما نظن أنه حقيقة»

(لودفيغ بورن)

صحافي آسيوي صديق له مقولة طريفة هي «يستحيل شراء الساسة الأفغان، لكن من الممكن دائما استئجارهم». لا تفارق ذهني هذه الكلمات عندما أتابع هياج بعض الساسة اللبنانيين في التسابق على إثبات الولاء والتبرع بتقديم الخدمات للنظام السوري، الذي حسم خياراته وقرر اعتماد «الحل الأمني» في التعامل مع انتفاضة شعبه.

هؤلاء، ليس للمرة الأولى، يبرهنون على طبيعة فهمهم لـ«علاقات الأخوة» بين لبنان وسوريا، ومستوى «التزامهم» قولا وفعلا بمبادئ حقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية، التي من المفترض أن اللبنانيين فُطروا عليها مذ كانوا، وإن بكثير من التطرف.

عندما قاد لبنان، من قلب مجلس الأمن الدولي، قبل بضعة أشهر، «المعركة» ضد اللانظام الليبي، لم يقل إنه لا يمكن أن يقف ضد دولة عربية شقيقة. غير أن الأمور انقلبت 100 في المائة عندما جاء دور وقف المجازر التي يرتكبها حكام دمشق ضد شعبهم؛ ففجأة فعل واقع «الاحتلال» فعله. وربما دخلت على الخط أيضا قضية الإمام المغيب موسى الصدر وما تستبطنه من اعتبارات طائفية فاقعة، فما عادت سيادة ليبيا سيادة دولة «شقيقة»، وبالتالي، لم يجد لبنان الرسمي غضاضة في التنكر لأخوته لها.

القصد هنا ليس إدانة الموقف اللبناني الرسمي من القيادة الليبية التي قاتلت ولا تزال تقاتل شعبها، بل من القيادة السورية.. التي أيضا قاتلت ولا تزال تقاتل شعبها. الجريمة واحدة، وبالتالي، فرد الفعل عليها يجب أن يكون واحدا، من منطلق أن مفهوم «الأخوة» لا يتجزأ.

وحول موضوع الإمام الصدر، ثمة أمر مهم يجدر التوقف عنده. فإذا كان حكم معمر القذافي قد ارتكب جريمة التغييب الفظيعة بحق ركن ديني وسياسي كبير من أركان لبنان (وهذا موضوع لا يجوز إنكاره والتقليل من شأنه) فإن حكمي الأسد1 ثم الأسد2 أهدرا دماء، وصفيا، بالفعل، كوكبة كبيرة قد لا تقل مكانة عنه من القادة اللبنانيين. وبناء عليه، وسط اختلاف التعاطي اللبناني في الشأنين الليبي والسوري، نصل إلى تفسيرين اثنين لازدواجية المعايير التي طالما استنكرها اللبنانيون في ممارسات المجتمع الدولي:

التفسير الأول، هو أن ثمة واقعا خاصا جدا لا يسمح بمساءلة من يحكم في دمشق، ولو بالحديد والنار. وهذا الواقع يجوز وصفه بـ«واقع احتلالي»، أو على الأقل، واقع هيمنة ومصادرة قرار.

أما التفسير الثاني، فهو أن ساسة لبنان المغيبين أو المقتولين.. «طبقات»، منهم من دمه رخيص ومهدور، ومنهم من دمه غالي الثمن.

أي من هذين التفسيرين لا يشرف لبنان واللبنانيين، ولا يشجع على التفاؤل بمستقبل مستقر لبلد لا قيامة له إلا بالحد الأدنى من الاستقرار والتفاهم الوطني العريض.

جانب آخر لا يشجع على استقرار لبنان، السائر مكبلا بأمراضه المزمنة بعكس الاتجاه العام التحرري في العالم العربي، هو إساءة تقدير نسبة لا بأس بها من قادته السياسيين والدينيين و«المختلطين» دينا ودنيا.. طبيعة التغيرات والتحديات في المنطقة. فاللبنانيون لم يفهموا بعد (وربما لا يريدون أن يفهموا أصلا) أبعاد وصول الترهل العربي إلى شفير الهاوية، واستعادة تركيا رؤيتها «الشرقية»، واندفاع إيران بقوة أكبر في هجومها الدفاعي، وطبعا.. تفاقم المرض الإسرائيلي المستعصي على الشفاء. وكل هذا أمام خلفية غياب الحصافة والصدقية في المقاربة الأميركية، وهو غياب قد يؤذن بعودة واشنطن قريبا إلى إدارة «جمهورية» لا أخلاقية ومتخلفة ومتطرفة وعدوانية. وعندها سيدفع الجميع الثمن، بمن فيهم (على الأرجح) الشعب الأميركي نفسه.

أقول هذا وأنا أتابع الدور المعيب الذي يلعبه بعض الساسة والمعلقين السياسيين اللبنانيين في الأزمة السورية، وتبرعهم الوقح لتصدر ماكينة «العلاقات العامة» والتضليل الإعلامي في دمشق، وهذا بعدما استهلك الحكم السوري أدواته «الدعائية» المكشوفة من أطباء أسنان هواة وموظفي غرف ملابس في أندية رياضية ومخبرين محترفين، كلهم يزعمون أنهم «محللون سياسيون».

ومن المؤلم بالفعل لكل لبناني - وبالأخص كل لبناني حريص على علاقات أخوة حقيقية مع سوريا - رصد ما تقوله وما تفعله أجيال من الساسة والإعلاميين الذين صنعهم وغذاهم - وروض بعضهم - جهاز الأمن السوري اللبناني المشترك على امتداد العقود القليلة الماضية. فهؤلاء يشكلون اليوم فيلقا دعائيا موازيا لفيالق آلة القمع العسكري و«الشبيحة»، ويتولون تطوعا (أو طاعة) تبييض صفحة القمع وتبريره والترويج لمزاعمه، بذرائع نضالية أو تعايشية كذابة.

بالأمس، قال أحدهم من طهران إن العرب «يتآمرون» على الحكم السوري، ويمولون الانتفاضة ضده لأنه «ممانع» (؟) و«مقاوم» (!)، وقبله عاد رئيسا حكومة سابقان لا يعترفان بفضيلة «حسن الختام».. ليطمئنا اللبنانيين بأن «الوضع عاد إلى طبيعته» في سوريا. و(كما سبقت الإشارة) على مستوى أدنى، ولكن ليس أقل خطورة، تدير حفنة من الحاقدين الطائفيين والمرتزقة ماكينات العلاقات العامة و«البروباغندا» السورية، من سوريا وفي لبنان. كل هذا وأبناء الشعب السوري يتطلعون من حولهم آملين بموقف شجاع من هنا ودعم حقيقي من هناك، يخففان عنهم وطأة كابوس جثم على صدورهم وكتم أنفاسهم لأكثر من 40 سنة.

ما يسمعه السوريون من نفر من إخوتهم في لبنان سيئ.. بل سيئ جدا، بينما هم منهمكون في بناء تفاهمات وتحالفات شعبية تؤسس لبديل مدني وإنساني وديمقراطي عن الحكم الأحادي الذي لا يعرف غالبيتهم غيره.

لقد كان العكس مأمولا من اللبنانيين، وهم أبناء كيان شقيق لسوريا أوهم نفسه طويلا بأنه بلد ديمقراطي يعشق الحرية ويحترم التعددية والتعايش.

كان الكثير متوقعا من اللبنانيين، الذين عاشوا ولا يزالون يعيشون تخمة في عدد الأحزاب والتنظيمات من كل شكل ونوع، بينما رزح إخوتهم في سوريا (عمليا) تحت تسلط «حزب» واحد.

كان الكثير متوقعا من اللبنانيين، الذين تباهوا طويلا بالتزامهم بالقيم الإنسانية والروحية، واحترامهم حق العبادات الدينية، بلا تمييز أو غلَبَة مذهب على آخر بقوة السلاح.

بل كان الكثير.. الكثير متوقعا من اللبنانيين، الذين أدركوا منذ تجربة حربهم الأهلية الإقليمية المدمرة عبثية الانجرار نحو «لعبة الأمم»، التي هي دائما أكبر منهم ومن بلدهم، فإذا بهم، حتى على مستوى قياداتهم الدينية الرفيعة، مع الأسف، يكشفون للقاصي والداني أنهم لم يتعلموا شيئا.

عذرا يا أحباءنا في سوريا.