بيضة الديك في سباق الرئاسة المصرية

TT

قبل أسابيع من الآن، كان مركز «الحق» لممارسة الديمقراطية في القاهرة، قد أصدر تقريرا عن مرشحي الرئاسة المحتملين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، فوصف جولاتهم الترويجية التي تتوزع بين العاصمة والمحافظات، بأنها ضجيج بلا طحن.

الشيء اللافت للنظر، أن المركز وهو يخلع على جولاتهم هذا الوصف، لم يحاول أن يستثني منهم أحدا، فأخذهم جميعا بهذه الصفة، وهي مسألة ظالمة في ظني، لبعضهم، فليسوا كلهم سواء، وليسوا كلهم ممنْ يمكن أن ينطبق عليهم وصف من هذا النوع.

صحيح أن الترشح للرئاسة في مصر، منذ أعلن المجلس العسكري الحاكم عن انتخابات رئاسية سوف تعقب تشكيل البرلمان ووضع الدستور، قد أصبح ميدانا مفتوحا لكل باحث عن شهرة.. دون ضابط ولا رابط ولا قيد.. وصحيح أننا، منذ تلك اللحظة، قد سمعنا، ولا نزال، عن أسماء غريبة، وعن كلام لها أغرب، وهي تشرح ما سوف تفعله عندما تصل إلى موقع الرئاسة.. ولكن الأصح من هذا كله، أن هناك، رغم ذلك، أسماء جادة، أولا، وذات وزن، ثانيا، وعندها رؤية، ثالثا.. وهؤلاء يمكن إحصاؤهم على أصابع اليد الواحدة، لا أكثر، بل إنهم أقل من أصابع اليد الواحدة.. وهؤلاء، أيضا، هم الذين يجب أن نأخذهم على محمل الجد، وأن نناقش ما يقولونه، وأن نتوقف عند برامجهم المعلنة.

وحقيقة الأمر، أنك لو تأملت ما يدور في الساحة السياسية المصرية في هذا الاتجاه؛ اتجاه الترشح لانتخابات الرئاسة المقبلة، فسوف يتبين لك، أن الوصف الذي أطلقه مركز البحث إياه، على كل هؤلاء المرشحين، أو على غالبيتهم على الأقل، إنما هو وصف دقيق تماما، بل إنه يمكن تطويره، بحيث يقال عنهم، إن ما يمارسه كل واحد فيهم، منذ أعلن عن ترشيح نفسه، ليس فقط ضجيجا بلا طحن، وإنما هو شيء أجوف، لا ضجيج فيه، فضلا عن أن يكون فيه طحن!

إننا نتابع في أرجاء الدنيا، مرشحين رئاسيين، لا يذهب الواحد منهم ليصافح مواطنا، بيمينه، إلا وكانت يسراه تمسك برنامجا مكتوبا، وتقدمه إلى المواطنين، ليكونوا وقتها على يقين من أن هذا الرجل المرشح إنما هو مرشح جاد فعلا، بدليل أن لديه برنامجا مكتوبا ومفصلا وعمليا، سوف يوضع موضع التطبيق، في اللحظة التي يفوز فيها صاحبه بالمنصب!

شيء من هذا لم يحدث عندنا، وربما يكون المرشحون المحتملون معذورين في ذلك، لأننا كمصريين لم نعرف انتخابات فيها مرشحون ببرامج معلنة، في تاريخنا السياسي المعاصر ولا الحديث، اللهمَّ إلا انتخابات 2005 التي كان الرئيس السابق حسني مبارك، قد خاضها ببرنامج مكتوب، ولم تكن بجانبه، في الوقت نفسه، برامج موازية، ولا فرص متكافئة لمرشحين آخرين؛ بحيث يمكن أن توصف التجربة، بأنها تجربة مكتملة، شأن كل تجارب العالم المتطور، في هذا الشأن!

وربما يكون الشيء المثير حقا أن مرشحينا المحتملين، والذين لا يزيد عددهم على ثلاثة أو أربعة، إذا لم يكونوا قد خرجوا على الناخبين ببرامج مكتوبة، فإن الناخبين من ناحيتهم لم يشغلوا بالهم في المقابل ببرامج من هذه النوعية، وكأنها مسألة بديهية؛ ألا يكون لدى المرشح برنامج عما سوف يفعله، وألا يسأله الناخب، في الوقت ذاته، عن هذا البرنامج!

ولكن.. يظل الناخب معذورا، هو الآخر، بمثل ما إن المرشح المحتمل معذور، لأن تجارب السياسة التي مر بها الطرفان، لم تدربهما ولم تعودهما على مثل هذه البرامج الانتخابية، التي لا تكون الانتخابات انتخابات بغيرها!

وقد كان عمرو موسى، المرشح الرئاسي المحتمل، أول المرشحين الذين فطنوا لهذه النقطة، فسارع بطرح شيء يشبه البرنامج، ثم نشره في «الأهرام» صباح الاثنين الماضي، تحت عنوان، «نظام جديد لإدارة الدولة المصرية».. وتظل هذه الخطوة من جانب عمرو موسى، أقرب ما تكون إلى «بيضة الديك» التي لا مثيل لها لدى المرشحين الآخرين كافة..

لا أريد أن أخوض في تفاصيل هذا «البرنامج المصغر» إذا صح التعبير، لأنه منشور ومتاح، ويمكن لمَنْ يشاء أن يعود إليه بسهولة، ولكني فقط أريد أن أشير إلى أنه يركز على فكرة انتقال الدولة المصرية، من نظام مركزي سلطوي عاشت عليه في الحكم من آلاف السنين، إلى نظام لامركزي، يقوم على دعامتين اثنتين، أولاهما سلطة مركزية قوية تضطلع بمختلف المسؤوليات القومية والمركزية للدولة، والدعامة الأخرى هي سلطات محلية منتخبة تنتقل إليها بشكل مؤسسي، وتدريجي، بناء على جداول زمنية، مسؤوليات وصلاحيات صنع القرار في كل ما يتعلق بالشأن المحلي!

عمرو موسى يرى، في هذا البرنامج الانتخابي المصغر، أن هذه العملية يمكن أن تستغرق من 4 إلى 8 سنوات، بحيث يمكن بعدها القول، إن نظام الحكم في البلد، قد أصبح لامركزيا حقا، من خلال عمل مؤسسي تدريجي منظم، يبدأ من عند نقطة محددة ويصل إلى هدف محدد أيضا، عند نقطة أخرى!

وهذا معناه في تقدير موسى، أن نظام الحكم المقبل في القاهرة سوف يكون نظاما رئاسيا، على المدى القصير، ليتحول على المدى الطويل، إلى نظام برلماني، شأنه شأن النظام الحاكم في تركيا، الآن، على سبيل المثال.

ومن ناحيتي، فإنني أتفق مع الرجل في شيء، وأختلف معه في آخر.. أما الأول فهو الذهاب إلى النظام البرلماني، تدريجيا، وليس على نحو مفاجئ، لأنه ليس من الممكن، عمليا على الأقل، أن تنتقل بنظام الحكم في بلد شديد المركزية مثل مصر، من نظام حكم هذه هي طبيعته على مدى قرون طويلة، إلى نظام لامركزي، يجعل للأقاليم دورا ورأيا وكلمة.. لا.. ليس ممكنا بهذه الطريقة، حتى لو أردناه الآن، وذهبنا إليه صباح غد.

أما الشيء الذي يمكن الاختلاف معه فيه، فهو هذا البرنامج المصغر المطروح باعتباره بداية سوف يبنى عليها.. إنه، في حد ذاته، برنامج ممتاز، في حدوده، ولكني أراه خطوة ثانية، لا أولى، بحيث تأتي الخطوة الأولى لتعمل على «الإنسان» الذي سوف ينفذ هذا الانتقال في نظام الحكم، من حالة، إلى حالة أخرى.

وإذا كنت قد وضعت كلمة الإنسان بين قوسين، فإنني أقصدها، وفي ذهني البرنامج الذي كان الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون قد طرحه مع ناخبيه، وقت ترشحه عام 1992 إذ كان عنوان برنامجه وقتها، من كلمتين اثنتين هما: الإنسان أولا!

لنا أن نتصور، بطبيعة الحال، قدر حاجتنا نحن إلى التركيز على «الإنسان» في أي برنامج انتخابي جاد، إذا كان كلينتون، بجلالة قدره، في الولايات المتحدة، بجلالة قدرها، قد أيقن منذ لحظته الأولى، أن البلد - أي بلد - بلا إنسان متعلم ومتدرب ومتمرن وجاهز بأدواته، إنما هو بلد لا يمكن أن يقطع خطوة واحدة بين الأمم..

ولذلك، ليس غريبا، أن نسمع في مجتمعنا المصري، يوما بعد يوم، عن آلاف من فرص العمل المتاحة، والتي لا تجد مَن يشغلها، لا لشيء إلا لأن الإنسان المتقدم لشغلها، إذا كان متعلما، فهو غير متدرب جيدا، وإذا كان متدربا، فهو غير متقن لأدوات عمله، مع أن مبادئ دينه تخبره بأن الله يحب إذا عمل أحدنا عملا أن يتقنه!

باختصار.. الإنسان، ثم الإنسان، ثم الإنسان.. ولو شئت لكررتها لتملأ هذه الصفحة وسائر صفحات الجريدة.