هل تطيل الديكتاتورية من عمر المراهقة؟

TT

سن المراهقة ومدته أساسية في تطور الأمم، فالدول يبنيها العقلاء وليس من هم في عمر الولدنة، كما يسميها الإخوة في بلاد الشام. المراهقة وطول مدتها يحددان مدى قدرة الدولة على النمو، وفي طول المراهقة أو قصرها مؤشر مهم لفهم مستقبل الأمم.

ملاحظتي الأولى بعد عودتي إلى مصر تخص علاقة الديكتاتوريات بالعمر، وتحديدا تأثيرها على تمدد سن المراهقة وإطالة مدته، فعادة يمتد سن المراهقة من الثالثة عشرة إلى الثمانية عشرة. أما في ظل الديكتاتوريات، وخصوصا في مصر، فيمتد عمر المراهقة السياسية والفكرية إلى منتصف الخمسينات من العمر، كيف يكون ذلك؟ وما الدليل؟

تركت مصر لأول مرة حين كان عمري أربعة وعشرين عاما، وكنت ممن تصدروا مظاهرات 1977 التي سماها أنور السادات يومها بانتفاضة الحرامية، كنا ما نزال خريجين جددا من الجامعات يملأون الدنيا صخبا، ولكنه كان صخب المراهقين. وها أنا أعود إلى بلدي مصر وعمري خمسون عاما كاملة بالتمام والكمال، تركت بعض أصدقائي يودعون المراهقة وبعضهم كان غارقا فيها، وهمت في بلاد الله بحثا عن المعرفة أو قبس منها، وها أنا أعود لأرى أنه ليس بعض أصدقائي فقط من هم غارقون في المراهقة، ولكني وجدت وطنا بكامله قد جمدته الديكتاتورية في عمر المراهقة. قد يرى البعض في مثل هذا السرد نوعا من التعالي على أبناء الوطن ممن لم يساعدهم الحظ ليسافروا ويروا بلاد الله الواسعة، ليس هناك تعال أو (تواط)، إنما هي الجرأة على قول ما يحسه الآخرون ويترددون في البوح به. إنه وصف لحال المراهقة السائدة وليس بـ«قول مرسل»، كما يحلو لأهل المحروسة أن يصنفوا أي نقد لا يعجبهم ويطلقون عليه أعيرة كليشيهاتهم النارية، ويصمونه بأنه ليس «قولا مرسلا»، هذا هو المصطلح الجاهز.

واحدة من أساليب العبودية والديكتاتورية هي العبث في موضوع العمر، فمن قرأ رواية «هيكلبيري فن» لمارك توين، يجد أن الصبي الأبيض هيكلبيري ينادي العبد المرافق جم الذي هو في سن والده، يناديه «يا ولد». وفي الغرب عموما تلصق كلمة الولد بالوظيفة الأدنى، فيقال errand boy (أي الولد بتاع المشاوير)، وOffice Boy وما غير ذلك، وهي استخدامات من بقايا عنصرية أنظمة ولت وأزمنة خلت.

ليس المهم هو أن يستخدم النظام الديكتاتوري هذا النظام اللغوي، ولكن الأهم هو تقبل المحكومين لتلك اللغة. وكان كل من السادات ومبارك يعاملان المجتمع معاملة الأطفال، فكان السادات يخاطب المصريين بـ«أولادي»، وكان يتحدث مثلا إلى الإعلامية همت مصطفى قائلا لها: «يا بنتي يا همت».. أما مبارك فكان يقول في خطبه الارتجالية: «حأكلكم منين؟»، أي من أين سآتي لكم بالطعام؟ و«انتو تمانين مليون.. حروح أشحت لكم».. لغة أبوية تعامل المجتمع كأنه مجموعة من الأطفال أو المراهقين فقط. وكان مبارك ينظر لمن هم في الخمسينات من العمر على أنهم شباب لا يستطيعون تحمل المسؤولية، وكان معظم أركان حكمه ممن هم فوق السبعين عاما، حتى صدق من هم في الخمسين من العمر فكرة أنهم شباب طائش غير قادر على تحمل المسؤولية، فأصبح سلوكهم سلوك المراهقين ولغتهم لغة المراهقين.

فمن ينظر اليوم إلى سلوك من يتصدرون المشهد المصري، لا تفوته ملاحظة سلوك المراهقين في البلاغات إلى النائب العام التي تشبه سلوك أولاد المدارس، «بحثا عن كبير يقول له برافو»، لأن معظم هذه البلاغات لم تقدم أو تؤخر أو حتى تحمل مضمونا، هي مجرد سلوك مراهق أو excited young man. الشد والجذب بين المجلس العسكري والقوى السياسية فيه مراهقة عالية، وفيه نوع من تشبث المراهقين بتوافه الأمور.

تركت مصر ما يزيد على ربع قرن، ومن تركتهم زعماء للحركة الطلابية في السبعينات، مثل اثنين من مرشحي الرئاسة، وجدتهم غارقين في العمر ذاته الذي كانوا فيه في السبعينات، مع أنهم الآن يقتربون من سبعينات العمر وليس سبعينات القرن الماضي.. الشعر اشتعل شيبا والسلوك سلوك مراهق في فهم متطلبات وطن على وشك الخراب والسقوط في الهاوية. وما هذه بعبارة تخويف بل هي الحقيقة. كنت أتمنى من بعضهم أن يتذكروا صوت الرجل التونسي الذي ظهر في إحدى القنوات العربية وهو يقول: «لقد هرمنا».. بالفعل هرمنا، ولكن أكثرنا ما زال في عمر المراهقة العقلية والسلوكية. لقد هرمتم يا سادة، فأنتم في الخمسينات والستينات من العمر، فلا داعي للمراهقة الفكرية التي سوف تودي بالوطن وبنا إلى التهلكة.

إن موضوع ما يسمى بتوقف النمو الذهني عند المراهقة هو أمر تمت دراسته في سيكولوجية العبودية، ولكنه حتى الآن لم يدرس في حالات الأنظمة الديكتاتورية، ومع ذلك أدعي من معطيات الحالة المصرية وسلوك النخبة، أن الديكتاتورية تطيل مدة المراهقة، لدرجة أن العواجيز في المشهد يظنون أنهم هم من فجروا ثورة الشباب، بدعوى أنهم كانوا شبابا في سبعينات القرن الماضي.

يستطيع المصريون الخروج من حلقة المراهقة التي تطرح على الناس كل يوم بدائل للحكم تلغيها في اليوم التالي، بأن تنظر إلى الأمور بشيء من الرشد، وبعقول أقرب إلى أعمار من يتصدرون المشهد، فاختصار الوطن في شعارات إخوانية أو يسارية أو سلفية، الدستور أولا أم الانتخابات أولا؟ وبدلة المشير وجلابية الرجل بتاع مباراة الزمالك، وبلوفر شفيق، وكل هذه الأمور التي لا تضحك سوى المراهقين، كل هذا المشهد لا بد أن ينتقل من مراهقة الثورة إلى رشد الدولة، وإلا مكثنا في توقف النمو الذهني هذا إلى حين، وفي ذلك الحين يختفي من بين أيدينا وطن قديم قدم الزمان.

أعرف أن الديكتاتورية تطيل مدة المراهقة، ولكن أتمنى أن الحرية تخرجنا إلى عالم الرشد والمسؤولية.