ثقافة اللوم وثقافة الشكوى

TT

كتب أحد قرائي الأعزاء تعليقا على مقالي السابق (المنشور في «الشرق الأوسط» الاثنين الماضي) تعليقا بالغ الأهمية، حيث ذكر قضية مهما جدا، فقد كتب يوسف الدجاني من ألمانيا في 2001/9/26: «إننا لا نلوم أعداءنا، بل نلوم أنفسنا وضعفنا وهواننا على أنفسنا وانقسامنا وتخاصمنا وتحزبنا.. لقد قال الله لنا: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)، وقال لنا: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)، فهل قلنا سمعنا واطعنا؟ إننا لم نفعل بل هم فعلوا!.. أتريدون أن تحرر لكم أميركا أرضكم؟ أم تريدون من إسرائيل أن تتفضل عليكم؟ كفى ضعفا وهوانا بحقوقنا المشروعة، فهل إلى مرد من سبيل؟ إننا العرب فقط نعيش في هذا الهوان من باقي الأمم، الاستعمار الإنجليزي والفرنسي والإيطالي والألماني، والآن الإسرائيلي يؤيده الأميركي، فإلى متى يا قادة وشعوب الأمة العربية؟ أليس هناك من سبيل للخروج من هذا الذل؟ إنني حزين ومعي الملايين».

قدم يوسف ستة أسئلة، وكي أكون أمينا فإن كل تساؤل ينبغي التعامل معه في مقال منفصل. وبعبارة أخرى، فقد لمس يوسف لب الأزمة الحالية في العالم الإسلامي، وأعتقد أن بمقدورنا أن نصنف أسئلته الستة إلى مجموعتين. حقيقة الأمر أننا نواجه في سماء بلادنا طائرا شيطانيا لديه جناحان هما اللوم والشكوى.

وقبل أربعين عاما نشر الروائي والدبلوماسي الإيراني إيرج بزشكزاد رواية رائعة بعنوان «عمي نابليون»، تضمنت شخصية مذهلة هي «مش قاسم». وكانت لدى «مش قاسم» نظرية مشهورة جدا، وبناء على نظريته كانت بريطانيا العظمى هي السبب الرئيسي في كل المصائب والكوارث في إيران، وفي العالم. فعلى سبيل المثال، كانت بريطانيا مسؤولة عن كل الأمراض والمجاعات وأي شيء يحدث، ويقول: «إن البريطانيين هم من فعلوا هذا»، ويقال إن هذا النهج لا يزال حيا في إيران في الوقت الراهن، فالحكومة الإيرانية لا تزال تعتقد أن هناك عدوا قويا للغاية، وأنه السبب الرئيسي في جميع مشاكلهم، إنه الشيطان الأكبر. ويميل السياسيون إلى استغلال هذا الاعتقاد واستخدامه كذريعة لوصف وإلحاق الخزي بمنتقديهم.

وفي سوريا، أصر الرئيس بشار ووزراؤه ومستشاروه، مرارا وتكرارا، على أن هناك مؤامرة خارجية ضد النظام. وهي تركز في الأغلب على إسرائيل وأميركا، ومن الذي يمكن أن ينسى كلمات القذافي النارية؟

لكن يبدو أن هناك أرضية مشتركة بين كل منهم. كل حزب وحكومة ورئيس وقائد يزعم أنه الأفضل، ويدعي أنه صاحب الحق، والقرآن الكريم يقول: «فلا تزكوا أنفسكم».. يقول القرطبي في تفسير هذه الآية: «أي لا تمدحوها ولا تثنوا عليها، فإنه أبعد من الرياء وأقرب إلى الخشوع».

والجميع يتحدث في إيران في هذه الأيام عن عملية الاحتيال في 3 مليارات دولار، هل كانت أميركا وإسرائيل مسؤولتين عن هذا الغش؟ ثقافة الشكوى واللوم تقول إن العدو الخفي هو السبب الرئيسي لهذا الغش، ولكن ما هو دور الإيرانيين؟

كان هناك تزوير كبير في انتخابات 2009، ولا يزال العديد من الناشطين السياسيين والصحافيين والمحامين في السجن، فهل هم عملاء لأميركا، كما تدعي الحكومة؟

يبدو لي أن الجميع يحاول تبرير نفسه ويتهم الآخرين على خمسة مستويات مختلفة، أولا على المستوى الفردي، وثانيا على مستوى الأسرة، وثالثا على مستوى المجتمع، ورابعا على مستوى الدولة، وأخيرا على مستوى العالم. ومن ثم نحن نفضل العثور على الجذر أو السبب الذي دفع كل كارثة من الغرباء.

وبعبارة أخرى، فإننا أمام نوعين من التفكير والأخلاق. ففي الشرق عادة ما نحاول تحليل كل ظاهرة جملة واحدة، بينما الغربيون على الجهة الأخرى يحللون كل ظاهرة بشيء من التفصيل. ونتيجة لذلك سيكون من الصعب بالنسبة لنا أن نبحث عن أصل وتفصيل كل حادثة أو كارثة. وباختصار فنحن نرغب في إطلاق الرصاص على الآخرين برصاصات اتهاماتنا وشكوكنا.

كي أكون أمينا، فأنا أتفق تماما مع يوسف الدجاني، لكن سؤالا مهما قد ينشأ هنا، وهو: ماذا ينبغي علينا أن نفعل؟ كيف يمكننا أن نشفي هذا المرض المأساوي؟

ما من شك في أن القرآن الكريم ألقى الضوء على أسلوبنا بوضوح تام. فأصل كل خير وكل شر هو معنا. وواضح تماما أن الأعداء سيستخدمون نقاط ضعفنا. وهذه هي استراتيجية الحرب، هذه هي نظرية سون وو، ففي الفصل الرابع من كتابه «فن الحرب» ذكر سون وو 37 قاعدة، وكل هذه القواعد تتناول نقاط الضعف والقوة. وتقول القاعدة 13: «عبر استكشاف تصرفات العدو ومواصلة التخفي، يمكن أن نظل مركزين، في الوقت الذي ينبغي أن يكون فيه العدو منقسما».

يقول القرآن إن علينا أن نعزز من أنفسنا ونطور من قواتنا: «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة» (الأنفال 16).

ما من شك في أن المصدر الرئيسي للقوة هو العلم، وقوة المعرفة. والدول التي تنتج المعرفة هي التي تنتج الأسلحة وتحتل البلدان الإسلامية، سواء بصورة واضحة أو خفية، من الذي اقتنع باحتلال دولتين مسلمتين (العراق وأفغانستان) من قبل أميركا وحلفائها؟ لقد أقامت أميركا وحلفاؤها الأمم المتحدة، حتى يتمكنوا من هندسة حق النقض لأنفسهم.. فكيف لنا أن نتوقع أن تحل مشاكلنا من قبلهم؟ في تفسير المنار لمحمد رشيد رضا، تفسير رائع، فهو يقول في تفسيره للآية 16 من الأنفال: «ومن المعلوم بالبداهة أن إعداد المستطاع من القوة يختلف امتثال الأمر الرباني به باختلاف درجات الاستطاعة في كل زمان ومكان بحسبه، وقد روى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تلا هذه الآية على المنبر يقول: (ألا إن القوة الرمي) قالها ثلاثا، وهذا كما قال بعض المفسرين، وذلك أن رمي العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته عن قرب بسيف أو رمح أو حربة».

هذا يعني أن علينا أن نتجنب القتال مع الأعداء في بيوتنا. ودعوني أقتبس كلمات إقبال لاهوري الشاعر والفيلسوف الكبير: «إذا أردنا أن نصف الإسلام بأنه نظام ذو قيم عليا فينبغي علينا، أولا، أن نعترف بأننا لسنا الممثلين الحقيقيين له».