هيكل: الإسهاب في عصر الاختصار

TT

كنت في الثمانينات أكتب موضوعي الأسبوعي، في حدود 2500 كلمة. حديث الثلاثاء الذي أقدمه هنا، يتراوح بين 850 إلى 900 كلمة. الاختصار فن صحافي أصعب بكثير من الإسهاب المصاب بالإسهال.

الاختزال أفقدني القدرة على تقديم أكثر من شاهد ومثال، من جعبة صحافية لا تنضب. لكن لم يكن لدي من خيار أمام قارئ اليوم. قارئ ملول يجتذبه إعلام حديث مفعم بالحركة والصورة، في التلفزيون. الإنترنت. الفيديو. والهواتف الذكية.

أحد أسباب أزمة الإعلام التقليدي (الصحافة الورقية) هو الإسهاب والاسترسال لدى كتّاب التحاليل الإنشائية. الصحافة اللبنانية نموذج ومثال. في صفحاتها الإخبارية، يتزاحم محررو التحاليل السياسية، ليمطروا القارئ بسيل من الرؤى المتشابهة أو المتناقضة، نقلا عن «مصادر عليمة» هي في معظمها مزعومة، ومن خيال خصب في السرد والرواية.

المحررون الآخرون في المكتب جنود مجهولون. فن الصياغة، في الصحافة الأميركية الأسبوعية، فرض إنصاف هؤلاء «الشهداء». فقد تم إدراج أسمائهم جنبا إلى جنب، مع أسماء المراسلين والموفدين. ليت هذا التقليد ينتقل إلى الصحافة العربية، لتعريف القارئ بالمحرر، تشجيعا له على استكمال عناصر الخبر التي أهملها المراسل.

هناك ظن خاطئ، لدى الصحافة الورقية، بأن مهمة المراسل هي إيراد الخبر السياسي فحسب. يجب تدريب وتعويد المراسل على تقديم صورة فلمية سريعة، لمشهد غريب في البلد الموفد إليه. وقد يكون هذا المشهد حادثة طارئة غير سياسية، شغلت المجتمع بها، أو بأبطالها.

المؤسف والمؤلم أن هناك اليوم مئات الفضائيات التلفزيونية العربية. وليست هناك وكالة أنباء عربية واحدة، ولو على مستوى إقليمي! بات إطلاق فضائية تعتمد وجها نسائيا جميلا، أو شيخا يفتي في ما هب ودب، أسهل وأرخص بكثير من إصدار صحيفة، أو تأسيس وكالة أنباء معرضتين للمساءلة في عواصم غدت حساسياتها «السيادية» فوق طاقة مراسل على الإقامة والعمل فيها.

وهكذا، فما زال العالم العربي يستقي أخباره من وكالات أنباء أجنبية تجري غربلة وصياغة أخبارها العربية، وفق مصالح الدول الكبرى، فيما الوفرة الهائلة من مراسلي وموفدي الصحف العربية، غير قادرة على مجاراة وكالة الأنباء الأجنبية، في فن صياغة الخبر واستكمال عناصره! إنصافا، هناك قلة قليلة من المراسلين تعنى باستكمال عناصر الخبر، حرصا على سمعتها الحرفية. ما زلت أذكر بالإعجاب رسائل زميلي فؤاد مطر الكاتب في «الشرق الأوسط»، يوم كان مراسلا لـ«النهار» في القاهرة، عندما كانت القاهرة عاصمة الخبر والسياسة.

من باب الوفاء أيضا، أذكر بصحافي آخر بات منسيا. ومات فقيرا عاطلا عن العمل. كانت رسائل علي هاشم مراسل «النهار» في الخليج، فنا صحافيا يمتاز كفؤاد مطر، بصياغة خبرية رائعة في عمق الوصف، ورشاقة العبارة، والذكاء في إيراد التفاصيل، من دون إيذاء للحساسية الخليجية. كنت شاهدا وزميلا لعلي هاشم. فقد صقل حرفته المهنية، بعمل طويل في مطبخ الصحافة. هكذا كان الصحافي المحترف قادرا على النجاح محررا. مخبرا. مراسلا. في صحيفة يومية. أو مجلة أسبوعية. أو في وكالة أنباء.

قد يستغرب القارئ، إذا اعترفت له بأني أحرص على ألا أملك تلفزيونا! بل أعتذر عن عدم الظهور في مقابلة. أو مداخلة تلفزيونية! الأسباب كثيرة. في مقدمتها خوفي من التأثر بالصورة، في حكمي على الأحداث والتحولات. ثم اعتراضي على الأسلوب التلفزيوني في الحوار. فإذا ما اختلفت الأضداد، يدق مقدم البرنامج (المنحاز غالبا لتيار حزبي أو سياسي) على صدره فخورا بالاقتتال الذي افتعله بين الديكة.

هذا الإسهاب الميلودرامي الصارخ يبعثر الرأي العام العربي. الشرذمة الفكرية تترك المشاهد في حيرة سياسية قاتلة، لا سيما أن كثيرا من المشاهدين هم من أشباه الأميين، أو أشباه المتعلمين الذين لا يتوفر لهم وعي قارئ الصحيفة.

شعرت بالأسى عندما استأذن حسنين هيكل في الانصراف. ظننت أنه سيتوقف عن الاسترسال في الكتابة. ثم رأيت أنه انصرف إلى الإسهال في التلفزيون!

كان هيكل متناقضا مع نفسه، عندما تجاهل انتقال مركز الثقل السياسي والمادي، إلى الخليج. فإذا به لا يجد سوى التلفزيون الخليجي، في «توثيق» التاريخ العربي. غاب عن ذكاء «الجزيرة» استخدامه لشاشتها، في تصفية حسابه مع من؟ مع النظام الخليجي!

كان على هيكل أن يتجنب تشويه تاريخ السعودية المعاصر. كان عليه، كقومي عربي، أن يشيد بتوحيد عبد العزيز آل سعود للجسم الاستراتيجي الصلب في رمال جزيرة العرب. لولا توحيد الحجاز. نجد. الأحساء. لكان هناك اليوم مزيد من دويلات ومشيخات متناحرة حينا، متهادنة حينا. كان عليه أن يعترف بابن سعود، كصاحب مشروع الوحدة الوحيد الذي تحقق في دنيا العرب، فيما لم يعرف ناصر - مع الأسف - المحافظة على الوحدة المصرية/ السورية، وفيما تترنح وتهتز دولة الوحدة اليمنية.

لا آخذ على هيكل السياسي سوى هذه الرغبة النفسية الجارفة في إيذاء السعودية. من هنا. فأنا لا أشارك في الحملة الإعلامية التقليدية عليه، كلما أبدى رأيا أو موقفا. في قضايا سياسية أخرى. بل تناولت تجربته الصحافية الباهرة، عندما تحدثت في هذه الجريدة، بالتفصيل عن عمالقة الصحافة العربية في القرن العشرين.

في حواره التلقيني المسهب مع «الأهرام»، بدا هيكل حاضرا ذهنيا وفكريا، على الرغم من وطأة سبعة وثمانين عاما، يحملها على كاهله صحافي يعترف بأن السرطان قد زاره، لكنه كان واهنا في قدرته على تجميع أفكاره، وصياغتها في قالب مختصر.

هيكل الصحافي، كزميله ونده في العمر غسان تويني، يملك «فن التشويق» الذي أسميه «فن العرض». هيكل آخر جيل صحافي يصقل الجملة والعبارة في كلمة «ناعمة». وأسميها أنا «الكلمة الأنيقة. الرقيقة» الجامعة بين الذائقة الأدبية وحلاوة العبارة الصحافية التي ابتكرها أستاذه وأستاذنا جميعا محمد التابعي.

لولا هذا الموظف الصغير الذي انتقل في العشرينات، من ديوان مجلس النواب المصري، إلى ديوان الصحافة، لما تطورت اللغة الصحافية، لتصبح اللغة الفصحى الرائجة التي يكتبها ويتفاهم بها 300 مليون عربي.

الصحافي ليس موظفا. أو سياسيا يتقاعد. كان على مصطفى أمين وبهاء الدين أن يتقاعدا عندما أصابهما الوهن الفكري. الأول في شيخوخته. الثاني في غيبوبته المتقطعة. في إسهابه، لم يكن هيكل قادرا على كتابة الزاوية القصيرة التي هي أصعب فنون الكتابة الصحافية.

يصبح الكاتب الصحافي نجما متألقا، عندما تستطيع التعرف عليه من أسلوبه المميز به. هكذا يعرف التابعي. هيكل. مصطفى وعلي أمين. بهاء. إحسان. غسان تويني. كامل مروة. سعيد فريحة. ميشال أبو جودة. وحده هيكل تطور، بثقافته ومتابعته، من محرر ومراسل، إلى كاتب ومعلق سياسي، ثم إلى مفكر موسوعي قادر على فرض إسهابه، على قارئ جديد ملول، في ثلاث صفحات تفردها له وحده فقط، أقدم صحيفة رصينة في عالمه العربي.