ثورة أم انهيار الأدوار المخالفة؟

TT

في هذا المقال سأسير عكس التيار وأقول: إن الإصلاح وليس الجمود في الأنظمة العربية هو الذي أدى إلى الثورات، وإن أي محاولة إصلاح في الأنظمة الشمولية هي السبب الرئيسي في كسرها، لأن الأنظمة الشمولية ليس بها أي مرونة، مثلها مثل الجبس بعد استخدامه في البناء لا يمكن أن تستخدمه مرة أخرى. الجبس «يشك» بالعامية، أي أنه وبعد استخدامه أو إذا ترك لفترة يتيبس ولا يمكن إعادته سيرته الأولى، الجبس (الجبس مش الجيش متقرأهاش غلط) يشك في أنظمة تشك. وحتى يكون هناك شيء من الحرص في طرح مقولة كهذه تنفجر مثل القنبلة في وجه ما هو سائد لا بد أن نتوخى الحذر في تعريف الإصلاح ومدى عمقه ومساحته، فإصلاح المبنى كله من الأساس يمكن أن يحل المشكلة، ولكن الإصلاح بمعنى تعديل بعض الأدوار العليا، أو بناء أدوار جديدة تشبه المواصفات العالمية، رغم كونها مخالفة وأكبر من أن يتحملها المبنى أو النظام، فهذا هو النوع الذي يؤدي إلى انهيار العمارة أو النظام برمته، وربما يؤذي الكثيرين من ساكنيه. وسأضرب المثل بمصر، وقد أعرج على بعض البلدان العربية الأخرى التي فيها ثورات مثل سوريا وليبيا واليمن وتونس، لكي أثبت صحة نظريتي.

حتى الآن في مصر لم تحدث الثورة وكل ما حدث هو انهيار للأدوار المخالفة التي بنتها جماعة جمال مبارك من أجل تمرير التوريث، أدوار فوق حمولة المبنى وفوق حمولة النظام، سقطت مع أول عبث بالأساس من تحت ولو في شبكة مياه المبنى أو تعديل وضع حنفية في الأدوار السفلى.. الذين يعرفون مصر قد لا تدهشهم هذه الملاحظة، ولكن ليس لديهم الجرأة أن يفكروا فيها في زمن الثورة. مهم بالنسبة لأي متابع لمصر أن يدرك أنه خلال السنوات الخمس الأخيرة تزايد عدد العمارات أو البنايات التي انهارت على رؤوس السكان بشكل ملحوظ، خصوصا في مدينة الإسكندرية ومدينة نصر. كانت كوارث تعبر بشكل رمزي، إن لم تكن تنذر بانهيار الوطن، ومع ذلك فجماعتنا ممن أصابهم جشع الإيجار في العمارات والاتجار في الوطن استمروا في بناء الأدوار المخالفة حتى انهار المبنى على رؤوس الجميع.

من يقرأ المؤشرات الاقتصادية لمصر خلال السنوات الفائتة لا تفوته ملاحظة أن هناك إصلاحا اقتصاديا قد حدث، أو على الأقل ما هو مسجل على الورق، وأن نسبة عجز الموازنة قد تقلصت، وأن هناك نموا كبيرا على الأقل على الورق. كانت هناك حملات ترويج للنموذج المصري، مما حدا بمجلة مثل «الإيكونسمت» أن تروج لمصر ضمن الأسواق الناشئة المهمة. وإليك بعض الأرقام. كان يقال: إن مصر خفضت الدين العام من 120% إلى 78% قبل الأزمة المالية العالمية، وإن عجز الموازنة تراجع من 9.6% عام 2005 إلى 6% عام 2008، وارتفعت الاستثمارات الأجنبية من 450 مليون دولار عام 2004 إلى أكثر من 13 مليار عام 2008.

فكيف نفسر ما كان يبدو أنه نمو وزيادة في الدخل القومي وزيادة في نسبة دخل السياحة وزيادة في مستوى دخل الفرد، كيف نفسر علاقة ما يبدو أنه مؤشرات إصلاح بقيام الثورة وذلك الانهيار العظيم الذي أدى إلى نهاية نظام مبارك؟

تندرنا كثيرا على الأرقام التي نشرها أحمد عز، أمين تنظيم الحزب الوطني (المنحل) والمسجون حاليا، في مقالاته اليتيمة في «الأهرام» حيث عدد فيها نسبة شراء المصريين للسيارات والموبايلات وأجهزة التكييف، فكيف يؤدي كل هذا الرخاء، من منظور جماعة التوريث، إلى الثورة، أو إلى انهيار النظام؟

الإصلاح من هذا النوع وليس الجمود في الأنظمة هو الذي يؤدي إلى الثورات. الشيء ذاته ينطبق على ليبيا وسوريا ومصر كما ينطبق على اليمن، وسينطبق على أي دولة تحاول مجاراة المد الثوري بالإصلاح. أعرف أن هذه عبارات مستفزة قد تصل بالبعض إلى أنهم يرمونني بتهمة غسل يدي من الثورة التي شاركت فيها في كل يوم في مصر، أو أنني أدعو إلى الجمود، وأنني ضد الإصلاح في بقية البلدان العربية. ليس هذا هو ما أقصده، ومن يقرأ المقال بهذه الطريقة يكون قد أساء فهم الفكرة الأساسية.

إن ما حدث في مصر يشبه حالة بناء أدوار مخالفة فوق عمارات لا تستطيع أن تتحمل ولو دورا واحدا فوق ما هو مسكون، وكانت البلد مسكونة فعلا بكل ما للكلمة من دلالة. إن ما يسمى بالإصلاح الذي حدث في مصر هو مجرد مجموعة أدوار مخالفة بناها فريق التوريث في مصر لإيهام العالم بشيء أشبه بالــ«بنت هاوس benthouse» أو الدور المزخرف الجميل المبني على قمة العمارة، وغالبا ما يكون أعلاها من ناحية الإيجار في بلاد الغرب.

حاولت حكومة أحمد نظيف بناء أكثر من دور مخالف فوق تلك العمارة المتهالكة المعروفة بمصر، وزاد الجماعة المبنى ببناء رقيق لإبهار العالم الخارجي، وتسارعت وتيرة البناء والأدوار المخالفة، وهذا ما أعطى انطباعا بزيادة معدلات النمو وزيادة الناتج القومي، وهي مؤشرات للأدوار المخالفة فقط، وليس لكل العمارة، ففي الوقت الذي كانت تزيد فيه القوه الشرائية للكماليات من التليفونات والسيارات والمكيفات، كان الفقراء يزدادون فقرا. ولكن هذا لم يكن ليهم جماعة التوريث الذين كان يهمهم فقط أن يكون العالم منبهرا بما يحدث في تلك الأدوار العليا المخالفة ويوافق على تنصيب الوريث. وما أن وصل البناء أو ما كان جماعة التوريث يسمونه بالإصلاح إلى ذروته حتى انهار المبنى وانهارت الأدوار المخالفة وأولها إمبراطورية أحمد عز وجمال مبارك، كما انهار من قبلها الدور المخالف لهشام طلعت مصطفى المتهم في مقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم.

ما كانت تفعله جماعة جمال مبارك كانت تفعله جماعة سيف الإسلام في ليبيا، بناء أدوار مخالفة لتمرير التوريث، وفجأة انهار المبنى. وللنظرية بقية.