كيف ومتى يخرج لبنان من مأزقه الوطني؟

TT

هل خرج مصير لبنان عن إرادة أبنائه، وبات مرهونا بعوامل داخلية وإقليمية ودولية، و«ملعوبا» على أكثر من مستوى ومرجعية وقاعدة؟ وإذا كان التحكم بالعوامل الإقليمية والدولية خارجا عن إرادة اللبنانيين وقدرتهم، فهل يشكل الاتكال على الدستور واتفاق الطائف، ضمانة كافية لتجنيب لبنان مضاعفات النزاعات الإقليمية والدولية وتأثيراتها المباشرة عليه؟

السؤال الذي يطرحه كل لبناني، من أعلى القيادات السياسية والمرجعيات الطائفية، إلى آخر مواطن عادي هو: ما العمل للتخلص من المأزق الوطني والسياسي الذي علق فيه المصير اللبناني؟ وهل بإمكاننا أن نعثر على صيغة الخلاص والمخرج بأنفسنا؟ أم علينا أن ننتظر الخلاص من تحولات إقليمية ودولية كبيرة تدفعنا دفعا إليه؟

جغرافيا، يقع لبنان بين سوريا وإسرائيل. في حالة حرب مع الأولى محظور عليه إنهاؤها بمفرده، ومعرض لـ«وصاية» الثانية وممنوع عليه الخروج عنها. استطاع لبنان طيلة عشرين عاما (1949 - 1968) تجنب أي عدوان إسرائيلي عليه، تطبيقا لاتفاقية الهدنة، ولم تشتعل حدوده الجنوبية وتجتاح إسرائيل أراضيه وتحتلها إلا بعد أن تحول الجنوب اللبناني إلى مركز للمقاومة الفلسطينية في السبعينات، ثم إلى ميدان مقاومة حزب الله قبل وبعد عام 2000. أما العلاقات اللبنانية - السورية فقد مرت بحقب تفاهم وتعاون أخوي، كما شهدت حقب توتر، سببها تضارب المصالح الاقتصادية، حينا، واختلاف طبيعة النظام الحاكم بين البلدين، حينا آخر، وبالتالي تباين نظرة كل من النظامين إلى المصلحة الوطنية والمصلحة القومية. ولا شك في أن التدخل السوري في الشؤون اللبنانية، سياسيا وعسكريا وأمنيا، ومراهنة بعض الزعماء والأحزاب في لبنان على اكتساب الدعم السوري لهم، كانا عاملين مهمين في تشويه العلاقات الطبيعية بين بلدين جارين أخوين، وفي تغذية النزاعات الحزبية في لبنان وتطييفها، وبالتالي في إيهان السيادة الوطنية، بل والوحدة الوطنية التي تشكل القاعدة الأساسية لوطن يتألف شعبه من ثماني عشرة مجموعة طائفية ومذهبية.

منذ أربعين عاما ولبنان يمر في «حالة غير طبيعية»، يصفها البعض بالأزمة السياسية - الوطنية أو الضياع المصيري. وذلك بعد أن عرف عشرين سنة (1950 - 1970) من الاستقلال والاستقرار والازدهار. بدأت مشاكله الكبيرة عام 1970، يوم استقرت المقاومة الفلسطينية المسلحة في لبنان – إثر ما سمي بـ«أيلول الأسود» في الأردن - وتحولت إلى دولة «خارج الدولة اللبنانية» وانقسم اللبنانيون حول دعمها أو رفض تجاوزاتها، وأشعل انقسامهم الحرب الأهلية التي دامت من 1975 إلى 1979 وغابت الدولة خلالها وتقاتل اللبنانيون طائفيا، ودخلت جيوش عربية وأجنبية وإسرائيلية إلى أراضيه، وخرجت منها. دمرت مدن وقرى، وخيل للعالم أن لبنان الوطن - الدولة، قد ذهب مع الريح. إلى أن كان اتفاق الطائف الذي طوى صفحة الحرب الأهلية ورمم الدولة وجدد الميثاق وعادت الروح، رغم كل التحفظات، إلى الجسم الوطني اللبناني وإلى الدولة. ومن عام 1989 إلى عام 2005، عاش لبنان حقبة عنوانها: اتفاق الطائف، أي الدستور - الميثاق الجديد، المطبق برعاية سورية وبواسطة سياسيين ترضى عنهم دمشق ويقبلون بتوجيهات الأجهزة الأمنية السورية. وفي عام 2005 اغتيل الرئيس رفيق الحريري، وبعد اغتياله وخروج السوريين العسكري من لبنان، وصعود المقاومة الإسلامية وحزب الله إلى الصفوف الأولى من القوى السياسية وتحالفه مع الجنرال عون وحزبه، دخل لبنان في مرحلة جديدة عنوانها: الانقسام الوطني - السياسي - الطائفي – المذهبي، المعروف بـ 8 و14 آذار. هذا الانقسام الذي لم يؤد، بعد، إلى حرب أهلية، ولكنه يحمل في طياته بذورها، لا سيما إذا وجدت القوى الكبرى المتصارعة في المنطقة أن لها مصلحة في إشعالها.

لقد نجحت قوى 8 آذار السورية - الإيرانية «الهوى» في إسقاط حكومة سعد الحريري على الرغم من أنها كانت ممثلة فيها. وترافق قيام الحكومة اللبنانية الجديدة مع اندلاع الأحداث في سوريا، وولادة ما اتفق على تسميته بالربيع العربي. واختلطت الأوراق والحسابات السياسية في لبنان، مرة أخرى، بين مراهنين على تغيير النظام في سوريا ومراهنين على صموده وتغلبه على معارضيه. بين محترم للشرعية الدولية وقرارات ومحكمة، ورافض لها.. بين مؤيد للانتفاضة الشعبية في سوريا، ومؤيد للنظام السوري.. بين مطالب بالإبقاء على سلاح حزب الله ومطالب بنزعه وحصر حمل السلاح بالدولة. وكأن كل هذه الأسباب الخلافية لم تكفِ الباحثين عن المتاعب ومستثمريها، إذ أضيف إليها عنوان خلافي جديد وهو: أيهما أفضل للمحافظة على حقوق ووجود الأقليات المسيحية في لبنان والمنطقة: الأنظمة السلطوية اللادينية أم الأنظمة الديمقراطية المدنية؟ أم الأنظمة الدينية؟

غدا أو بعد غد، سوف يطرح على البحث مشكلة تسديد لبنان لنصيبه في تمويل المحكمة الدولية، كما سيناقش الوزراء والنواب مشروع قانون الانتخابات القادمة، وتستثار انقسامات ونزاعات سياسية وطائفية ومذهبية إضافية، فوق النزاعات المحتدمة منذ سنوات.. وفي هذا الجو السياسي السلبي المعبق بالشكوك والاتهامات سوف تتحول كل قضية إلى مشكلة وكل خلاف إلى توتر وكل قرار إلى أزمة. وكل أزمة إلى تهديد بحرب أهلية..

الغريب، هو أنه على الرغم من كل هذا التوتر والقلق والضياع، لا تزال أسعار العقارات في لبنان أغلى من بعض العواصم الأوروبية. ولا يزال اللبنانيون في الداخل يعملون ويسهرون ويتزوجون ويبنون المنازل ويفتتحون كل يوم مطعما جديدا. ولا يزال المستثمرون يرسلون أو يوظفون أموالهم في لبنان، غير عابئين كثيرا بما تعده لهم خلافات زعمائهم من مصير.

ماذا سيكون عليه العالم العربي بعد ربيع الحرية والديمقراطية؟ وما هي مخططات إسرائيل للحيلولة دون تحول الربيع العربي إلى خطر عليها؟ وهل ستستمر إيران في تنفيذ مشروعها الشرق أوسطي؟ ولمن تكون الكلمة الأخيرة في سوريا؟ وما هي خطط الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الكبرى للدفاع عن مصالحها الحيوية في المنطقة؟ تلك هي الأسئلة الكبرى التي يرتهن المصير اللبناني بالأجوبة عنها. وليس ما يتبادله فريقا 8 و14 آذار من تهم أو يخططون له من مشاريع...

..لسوء حظ اللبنانيين.