شهادة.. ومشير.. وبدلة

TT

الجدل المثار حاليا بين أطراف الطيف السياسي في مصر حول ظهور المشير، الذي يعد رأس الدولة حاليا - بحكم الدور الذي يقوم به المجلس العسكري - ببدلة مدنية في أحد شوارع القاهرة وشهادته في قضية محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك، تعبير واضح عن المشهد المصري الحالي الذي يوحي للمتابع من الخارج بقدر من الفوضوية.

فقد ابتكرت الحالة المصرية شكلا أكثر ظرفا من نظرية الفوضى الخلاقة التي أطلقها فريق من المحافظين الجدد في فترة ولاية الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في الولايات المتحدة. فجاءنا ما يمكن أن نسميه الفوضى اللذيذة، المتمثلة في حالة سيولة وارتباك سياسي يشترك فيها كل اللاعبين. كما يبدو أن هناك حالة استمتاع بها من قبل الجمهور المنبهر حتى التخمة بكل هذا الحراك والطحن والضجيج الذي يشاهده «مباشر» بعد ملل عقود من الركود والموات السياسي.

لذلك كان طبيعيا أن يحظى مشهد المشير وهو يتجول وسط القاهرة ببدلة مدنية بسيل التعليقات والتساؤلات والتحليلات من قبل القوى السياسية، لكنه في النهاية لا يحتاج إلى تحميله أكثر مما يحتمل سياسيا.. فحتى لو افترضنا أن هناك طموحا سياسيا، وهو ما لا توجد مؤشرات أو دلائل واضحة عليه، كما أن «الحالة الثورية» لا تسمح به، فالمفترض أنه ستكون هناك انتخابات رئاسية ستجرى، والناس هي التي ستختار، ودور القوى السياسية أن ترشدها.. فممَّ تخافون؟

أما قضية الشهادة في محكمة مبارك، التي تسربت تفاصيلها إلى المواقع الإلكترونية والصحف، وأثارت انتقادات بين ثوريين وأوساط سياسية؛ لأنها نفت أن يكون الجيش قد تلقى أوامر بإطلاق النار عندما طلب منه النزول، فقد تلتها إذاعة فقرات لم تبث من شريط تلفزيوني للقاء مع ضباط الداخلية قبل شهور قال فيه الكلام نفسه، ثم عاد وقاله المشير طنطاوي علانية في افتتاح مشروع قبل يومين، مؤكدا أن الجيش لن يطلق النار أبدا. والسؤال الذي يجب أن يطرحه الجميع على أنفسهم هو: هل يريدون أن يشهد الشهود في المحكمة بما يودون أن يسمعوه على طريقة «الجمهور عاوز كده»، أم يشهدون بالحق حتى لو لم يعجب كثيرين والقاضي في النهاية هو الذي سيحكم؟

المفترض في حالة ما بعد «25 يناير» التي تريد تأسيس دولة على أسس الحرية والعدالة أن يتم ترسيخ مبدأ الشجاعة في قول كلمة الحق، وأن يكون المسؤولون في هذا النظام الجديد بقدر المسؤولية وليسوا مرتعشين يخشون اتخاذ القرارات، فهكذا تتقدم الأمم، وترتقي الأخلاق.

مع ذلك فهذه لقطات فرعية من المشهد الرئيسي الذي يجب ألا تغيب البوصلة عنه، هو الكلام في السياسة الحقيقية التي تعني عبور الفترة الانتقالية بكل إشكالاتها والتأسيس للنظام الجديد ومحاولة تجنب الانشغال في قضايا فرعية تطغى على هذا الهدف.

فقد استمرت حالة الارتباك السياسي طوال الأشهر الثمانية الأخيرة في فورة نشوة ما بعد الإطاحة بالنظام السابق وسيل المطالب التي أظهرت الأحداث بعدها أن الكثير منها غير واقعي، أو خطأ، فيجري التراجع عنها أو تعديلها، وفوق كل ذلك الجدل والخلافات السياسية التي لا تنتهي، ونتيجتها إبطاء عبور المرحلة الانتقالية.

لقد قال أحد المرشحين الرئاسيين، وهو عبد المنعم أبو الفتوح، كلاما مفيدا مؤخرا حينما دعا إلى توقف هذا الجدل والدخول في الانتخابات بأي نظام حتى تجري عملية تسليم السلطة.

فهناك معضلة حلها في الصندوق، هي أن الخريطة السياسية غير واضحة، بمعنى: أن الحديث عن الوزن السياسي وامتلاك الشارع مجرد كلام يمكن التشكيك فيه أو نقضه. فلا أحد لديه شرعية غير قابلة للنقض حاليا سوى الجيش، حتى تحدد صناديق الاقتراع الحجم الحقيقي لكل قوة، وبالتالي تستطيع أن تقول على الملأ وبقوة: أنا الشرعية وأريد السلطة؛ لذلك يفترض أن تكون كل القوى حريصة على المضي سريعا في الإعداد للانتخابات، والأهم أن تعمل بجدية على أن يكون الناخب مدركا ومستوعبا لنظام القائمة الذي سيجري انتخاب ثلثي المقاعد في البرلمان على أساسه.