بشارة الراعي.. لحظة!

TT

لا تزال أصداء حديث البطريرك الماروني اللبناني بشارة الراعي عن خطورة سقوط نظام الأسد في سوريا، ونتائج هذا السقوط كتهديد مباشر لوجود المسيحيين في المشرق العربي، يلقى التفاعل تلو الآخر، وحرك مياها لم تكن بالضرورة راكدة، ولكن حتما زاد من توترها وبالتالي من حراكها.

وأود أن أقدم للمرجعية المسيحية المارونية الأولى في لبنان، نصيحة خاصة بأن يتكرم بالاطلاع وقراءة كتاب كمال ديب المهم جدا «هذا الجسر العتيق، سقوط لبنان المسيحي» الصادر عن دار النهار عام 2004، ويسرد تاريخ لبنان المسيحي الحديث، مغطيا الفترة منذ العام 1920 حتى 2020 توقعا. والجميل في هذا الكتاب أن كمال ديب الذي أعتبره أهم كتاب لبنان من ناحية تأصيل المسألة السياسية من نواحيها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في آن، مع توثيق علمي ودقيق لطرحه المهم، وأهم خلاصات هذا الكتاب أن مسيحيي لبنان في حالة تناقص مستمر لأسباب مختلفة، منها ما هو اقتصادي الذي بدأ منذ نهايات القرن قبل الماضي، والذي ظهر في أشكال هجرات للأميركيتين الشمالية والجنوبية، وذلك بأعداد كبيرة، ثم تلا ذلك هجرات عقب الحربين العالميتين الأولى والثانية، وطبعا عقب وخلال الحرب الأهلية، وكانت لأوروبا وأفريقيا والخليج العربي وأستراليا.

وكانت للهجرات المسيحية من لبنان أسباب وجيهة، منها ما كان له علاقة بتتابع الأجيال المهاجرة، كما أظهر ذلك جيدا أمين معلوف في كتابه «موانئ الشرق»، وهناك طبعا الاقتتال البيني المسيحي على الجاه والمكانة، الذي كان مؤداه بعد ذلك قتلا وتهجيرا، كما تظهر ذلك قصص إهدن وزغرتا وكسروان الحزينة، وهي التي أشار إليها كمال الصليبي في سفره الشهير عن تاريخ لبنان، وكذلك ركز عليها الكاتب الغربي القدير جوناثان راندل في كتابه «الذهاب إلى النهاية»، وهو كان يتحدث فيه عن الاقتتال البيني المسيحي الماروني خلال الحرب الأهلية اللبنانية، التي بينت حجم المشكلات والمآسي المتجذرة للمسيحيين في لبنان.

أما حديث البطريرك الراعي و«استشهاده» بما حدث للمسيحيين في العراق وتهجيرهم منه، بمقارنة ما حدث في العراق بالثورات العربية الحالية، فهو كمن يقارن التفاح بالبرتقال، فما حدث في العراق كان نتاجا لغزو من أميركا للعراق، أما ما يحدث من ثورة في سوريا فهو نتاج واضح وصريح لقمع تراكمي من نظام مستبد في حق شعبه، الذي دفع ثمن ذلك بالآلاف من أبنائه كضحايا، وناهيك عن الذل والإهانة التي جاءت مع كل ذلك.

بابا الكنيسة الكاثوليكية الأسبق، يوحنا السادس عشر، وهي الكنيسة التي ينتمي إليها الموارنة، كان من بولندا، وهي إحدى الدول التي كانت تعاني من بطش واستبداد الاتحاد السوفياتي، وأيد وتعاون مع الغرب على العمل على هدم الكتلة الشرقية لينال الأوروبيون الشرقيون حريتهم، وهو في ذلك الأمر عكس البابا الحالي الذي لم يأخذ موقفا صريحا مما يحدث للمسيحيين في الشرق عموما (علما بأن أكبر تهجير مركز حصل للمسيحيين كان على يد اليهود في فلسطين، وهي مهد المسيح، وباتت اليوم مهددة بأن تكون خالية من أتباعه).

كان على البابا وبشارة الراعي أن يراعوا الحقيقة، ويقولوا إن الشرق الأوسط سيكون أفضل بلا طغاة وبلا أنظمة استبداد، وأن من يحمي المسيحية والمسيحيين في الشرق هي مجتمعات حرة وليست عبيدا مستعبدة، ولكن يبدو جليا أن بشارة الراعي نفسه أسير الخطايا السياسية السابقة له في لبنان مما يجعله مضطرا لدفع الضريبة العظمى لقاء النجاة والاستمرارية، وهي ضريبة المصداقية. أتمنى على بشارة الراعي أن يقوم بخلوة مع النفس، ومراجعة صادقة لما قال؛ لأن «المجد» في السماء وفي الأرض لا يبنى ولا يدوم إلا بالقول الحق.

[email protected]