بلاد الله وخلق الله

TT

بلاد الله واسعة للغاية وخلقه كثيرون، ومن يقل لك إن الأرض قد ازدحمت فلا تصدقه؛ لأن الذي علم الإنسان ما لم يعلم أعطاه القدرة على أن يجعل من مساحات صغيرة فيها ما يكفي فوق الأرض وتحتها، مما يجعله تضم وتستوعب جماعات كثيرة. وفي واحدة من الدراسات التي صادفتها وجدت أنه من الممكن للإنسانية كلها، أي قرابة سبعة مليارات نسمة، أن يعيشوا في ولاية تكساس الأميركية وحدها. الفكرة هنا أن المهم هو أن التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي يكون من الفاعلية والبساطة، بحيث يستوعب وينظم حياة الناس بطريقة تجعلهم يستغلون المساحات بقدرة فائقة. «النانو» تكنولوجي جاءت حتى تصغر الأشياء وتجعلها أكثر بساطة، وفي يوم الأيام كان أول كومبيوتر يحتل عمارة كاملة، وعندما وضع نفس طاقة الكومبيوتر في حجرة واحدة قبل انطلاق سفينة الفضاء «أبوللو 13» كان ذلك معجزة كاملة. تعال الآن وراجع أحجام الكومبيوتر الشخصي الذي يمكنه حمل معلومات كانت في السابق تحتاج مدينة كاملة من الأرشيف. وانظر أيضا إلى تليفونك المحمول الذي تستطيع أن تحمله وتتجول به حول العالم ما شاء لك التجول، بينما تستطيع أن تشاهد أحباءك، وتتابع أخبار شركتك من خلال شبكة «سكايب» بالصوت والصورة.

كل ذلك لأن الأمور المعقدة أصبحت أكثر بساطة، وكلما باتت أكثر بساطة أصبحت أكثر وضوحا، والأشياء الكبيرة أصبحت صغيرة بنفس الطاقة أو أكبر، بل إن الكبير والصغير أصبح مسألة يتحكم فيها الإنسان حسب الظروف. ومنذ عام زرت معرض المنتجات المستقبلية لشركة «باناسونيك» اليابانية، فوجدت من بينها اختفاء شاشة التلفزيون التي باتت حائط المنزل، وتستطيع عن طريق يديك أن تتحكم في حجم الشاشة التي تريدها طولا وعرضا، وبنفس الدرجة من وضوح وتركيز الصورة. وحينما سألت كيف تم ذلك؟ قيل لي لأننا – أي العلماء - أصبحنا أكثر بساطة الآن. ولكن الفكرة المغرقة في بساطتها كانت المنزل الذي يغذى نفسه بالطاقة، فهو يأخذ قدرا صغيرا من الطاقة الشمسية التي تمر فوق سطحه، ولكنه في النهاية يعيد تدوير الطاقة طوال الوقت عن طريق تحويل الضوء الذي يخرج من المصابيح، والطاقة التي تخرج من الثلاجات والمواقد وأجهزة الكومبيوتر؛ لكى يتم استخدامها مرة أخرى في نفس البيت. تماما كما هو الحال الآن حينما نأخذ الماء الذي يخرج من المصارف أو من البيوت ثم نكررها ونقيها ونعيد استخدامها من جديد؛ وتماما أيضا كما جرى عندما تم اختراع البنوك، وبدلا من أن يستثمر كل فرد أمواله القليلة في مشاريع قليلة، فإن تجميعها في بنك يجعل استثمارها ممكنا في بناء دول بأكملها.

البساطة والتبسيط كانا دائما من أسرار التقدم الكبرى، ويحكي العلماء دائما كيف أنهم عندما يكتشفون شيئا ينبهرون؛ لأنهم لا يعرفون لماذا لم تكن هذه الفكرة الجديدة أول ما خطر ببالهم؛ نظرا لبساطتها المذهلة.

هذه المقدمة الطويلة جاءت لأنني اكتشفت فارقا كبيرا بين التقدم والتخلف، حيث الأول ينحو إلى التبسيط، أما الثاني فيميل دائما إلى التعقيد. وعندما زرت طهران ذات مرة، وأثناء حفل استقبال كان فيه جمع من الجنسيات، قال صديق إيراني، بفخر شديد، إن العقل الإيراني مثل السجاد الإيراني (العجمي بلغة العرب) فيه من الدوائر والمربعات والخطوط، وما لا أول له ولا آخر، ما يجعله معقدا وعصيا على الفهم للآخرين. وساعتها لم تكن مشكلتي هي عما إذا كان الأجانب يفهمون العقلية الإيرانية أم لا، على الرغم من أنه لا توجد هناك حكمة في ألا يفهمك الآخرون، ولكنني لم أكن متأكدا أن الإيرانيين يفهمون عقلياتهم. وكذلك الحال مع العرب، وعندما عدت من الولايات المتحدة عام 1982 بعد دراستي، وجدت عاصفة في مصر حول «التمويل الأجنبي» للبحوث عن مصر، وكان تحت عنوان «وصف مصر بالأمريكاني» وكان ذلك مقاسا على كتاب «وصف مصر» الذي نتج عن الغزو الفرنسي لمصر، والذي أصبح الوثيقة الأولى في معرفة البلاد المصرية، مع مطلع القرن التاسع عشر، لم يكن هناك ما يماثلها. أيامها كان المنطق أن التمويل الأميركي لمراكز البحوث يعني أن يعرف الأميركيون عنا كل شيء، وكان سؤالي هو عما إذا كنا نحن نريد أن نعرف عن أنفسنا كل شيء.

هذه الأيام تتكرر المسألة مرة أخرى، وعلى الرغم من الثورة وربيع القاهرة الذي يأتي كل جمعة مع مليونية جديدة، فإن الحياة تزداد تعقيدا، وتكاد لا تعرف البساطة أبدا. وعلى مدى العقود الستة لثورة يوليو (تموز) «المجيدة»، كانت الحياة المصرية قد تعقدت بما يكفي من قوانين وتشريعات، حتى قيل إنها وصلت إلى 68 ألف تشريع. وعلى الرغم من أن الديمقراطية لم تكن موجودة، ولا تمثيل للشعب كله، فقد كان هناك إصرار على أن يكون هناك نسبة 50 في المائة للعمال والفلاحين – على الأقل - في المجالس التشريعية والمنتخبة في الشورى والمحليات. والآن فإن القانون الجديد للانتخابات لا يشمل فقط نسبة العمال والفلاحين، ولكن معهما جاءت الانتخابات بالقائمة، وأخرى فردية، وأصبح عدد أعضاء مجلس الشعب والشورى من الكثرة بحيث يستحيل اتخاذ قرار فضلا عن التداول في شأنه. والطريف في الأمر أنه كلما زاد الأمر تعقيدا، انصرف الناس عن الانتخابات، وكلما انصرف الناس عن الانتخابات تم انتخاب أكثر العناصر تطرفا؛ لأنهم وحدهم الحريصون على حضور انتخابات معقدة، وتستغرق ساعات طويلة لكي يقرر الإنسان أمره ما بين الفردي والقائمة، ومن منهم من العمال والفلاحين، ومن منهم من «الفئات»، وهي كلمة ليس لها أي معنى سوى أنهم هؤلاء الذين ليسوا عمالا أو فلاحين. وعندما يتم ضرب هذا التعقيد كله في اثنين بإضافة مجلس الشورى إلى الموضوع، فيمكنك أن تستنج إلى أي حد نجحت ثورة يناير (كانون الثاني) أكثر مما فعلت ثورة يوليو، وسوف تكون النتيجة ساعة وضع الدستور تعقيدا مركبا.

وهذا ليس التعقيد المركب الوحيد في البلدان العربية، فقد نجحت العراق، ربما لقربها من إيران، في أن تنتج أكبر نظام سياسي معقد في البلدان العربية، حتى إن اللبنانيين الذين احتكروا هذه المكانة لأنفسهم يحسدونهم الآن عليها. وعلى أي الأحوال لو أخذنا معيار زمن تشكيل الوزارة، فإن كليهما يحتاجان بين الشهور والأعوام لكي يأتي من يسير أحوال العباد. ولكن من يحتاج تسييرها على أي الأحوال؟ فالقضية من الأصل ليست مطروحة، المهم أن لا يعرف الأميركيون شيئا عن أحوال عبادنا إذا كنا نحن لا نعرفها من الأصل.

لا أدري إذا كانت الرسالة قد وصلت أم أن التعقيد والتخلف فيها لا يسمح بتوصيلها، ولذلك سوف نعود مرة أخرى من البداية، فإن بلاد الله وخلق الله لم يتركوا لنا شيئا نعيد اختراعه، وكلما عرفنا أنه لا يجوز أن نعيد اختراع العجلة من جديد، ربما وصلنا إلى هدفنا بسرعة وبساطة أكبر.