مصر الترميم

TT

في مقال الأمس قلت: إن الإصلاح، وليس الجمود، في الأنظمة العربية هو الذي أدى إلى الثورات. وقلت أيضا: إن ما حدث في مصر ليس بالثورة بعدُ، لكن كل ما حدث هو انهيار للأدوار المخالفة التي بنتها جماعة جمال مبارك، أدوار مزخرفة فوق مبنى آيل للسقوط، كان القصد منها هو تمرير التوريث، أدوار فوق حمولة المبنى وفوق حمولة النظام، سقطت مع أول عبث بالأساس من الأسفل وربطت ذلك بظاهرة تساقط العمارات في محافظة الإسكندرية ومدينة نصر.

قلت أيضا: إن اللغز هو أن المؤشرات الاقتصادية لمصر خلال الـ5 سنوات الفائتة تدل على تنامٍ في الاقتصاد وارتفاع في الاستثمارات الأجنبية من 450 مليون دولار عام 2004 إلى أكثر من 13 مليارا عام 2008.

وكان السؤال هو: كيف نفسر ما كان يبدو على أنه نمو وزيادة في الدخل القومي وزيادة في نسبة دخل السياحة وزيادة في مستوى دخل الفرد؟ كيف نفسر علاقة ما تبدو أنها مؤشرات إصلاح بقيام الثورة وذلك الانهيار العظيم الذي أدى إلى نهاية نظام مبارك؟ وكان تفسيري هو النمو الذي حدث في الأدوار المخالفة المقامة فوق المبنى من أجل إبهار الخارج وتمرير التوريث بناء على مؤشرات تبدو حقيقية للأدوار المخالفة، لكنها كاذبة بالنسبة للعمارة كلها.

أما سؤال اليوم فهو: هل ما يقوم به المجلس العسكري اليوم هو محاولة لإعادة بناء الأدوار المخالفة مرة أخرى لساكنين جدد، أم أنه سيعيد بناء العمارة من أولها؟

طرحت، في مقالات سابقة، حكاية أزمة مصر المتمثلة في تنافس شرعيتين، أولاهما شرعية يوليو (تموز) 1952 التي يستمد الجيش منها أهميته ووجوده على الساحة بهذه المساحة، أما الشرعية الثانية فهي شرعية 25 يناير (كانون الثاني) 2011 التي لم يعترف بها المجلس العسكري بشكل صريح حتى الآن.

إذا كان التصور للبناء السياسي المصري هو أن الأساس فيه هو شرعية 1952، إذن نحن أمام إعادة بناء الأدوار المخالفة للقانون مرة أخرى، من أجل ساكنين جدد من الإخوان والسلفيين والوفديين الجدد، لكن ما سيبنى مكان الأدوار التي انهارت ليس الـ«بنت هاوس» الذي أراد جمال مبارك إبهار الغرب به، ولكن ما سيبنى مكانه هو عشش البوابين الموجودة فوق أسطح العمارات في القاهرة، التي صورها علاء الأسواني في «عمارة يعقوبيان» تصويرا جيدا.

بكل أسف الجيش في مصر ربط نفسه وتاريخه بثورة 1952 أو انقلاب 1952، حسب توجهك السياسي، مع أن تاريخ الجيش المصري أقدم من ذلك بكثير، ويعود إلى آلاف السنين؛ حيث غزا جيش حتشبسوت القرن الأفريقي فيما كان يعرف ببلاد بنت، وأن بحرية الإسكندرية كانت الحاكمة للبحر المتوسط لفترات وصلت إلى مئات السنين، وأن الجيش المصري ذهب لإخماد ثورة في المكسيك، المهم في النقطة هو أن العسكرية المصرية لها تاريخها من العصور الفرعونية حتى أسرة محمد علي باشا، ويجب أن نذكر العسكر أن تاريخهم أقدم من 1952، إذا أردنا أن نغير أساس المبنى كله.

فالتشبث بانقلاب 1952 على أنه الشرعية المنافسة لثورة يناير يعني إعادة إنتاج الأدوار المخالفة التي أدت إلى سقوط نظام مبارك، وحتما ستؤدي إلى انهيار آخر بعد الانتخابات مباشرة. فلماذا لا يحاول الجيش، ومعه الوفد وحتى الإخوان، أن ينظروا إلى الصورة الأكبر؟ الوفد مثلا قد يبحث في بدروم العمارة الآيلة للسقوط في غرفة مظلمة بالأسفل ويكتشف أن لديه صك ملكية المبنى، كما فوض المصريون سعد باشا زغلول بالنيابة عنهم في ثورة 1919. إذن لو توقف الوفد عن مراهقته وتكتيكاته السياسية لقبل بإعادة البناء مرة أخرى. الإخوان أيضا لو بحثوا في بدروم العمارة لوجدوا غرفة بها طلمبة شفط مياه بها عطل، فبدلا من أن يعيشوا في أدوار مخالفة غارقة في ماء لا يصلح للوضوء، بقليل من الحصافة يمكن تشغيل طلمبة الشفط، لتسحب مياه المجاري بعيدا ويعيش الناس «على نظافة»، لكن الإخوان يفضلون الشجار مع العسكر على الأدوار المخالفة بما فيها من ماء نجس بدلا من إعادة النظر في المبنى برمته.

النقطة الأساسية هنا هي أن المقابلة بين شرعية يناير 2011 كثورة تنافس 1952 هي مقابلة غير مفيدة بالنسبة للعسكر أنفسهم، فتاريخ العسكرية المصرية أقدم بكثير من 1952. العسكر يحتاجون إلى تطمينات وإلى تعليم أكثر حول تاريخ العسكرية المصرية حتى يبتعدوا قليلا عن تمسكهم بثورة كانت في أحسن الأوصاف مجرد انقلاب، أو انهيار شرعية الملك التي ورثها العسكر أيامها، كما انهارت شرعية مبارك وأدواره المخالفة وورث العسكر المشهد مرة أخرى.

لو لم يقتنع العسكر بأن تاريخ وشرف العسكرية المصرية أقدم بكثير من يوليو، فبكل تأكيد سيعيدون إنتاج الأدوار المخالفة مرة أخرى ويجب علينا أن نستعد للانهيار المقبل، أما إذا نضج العسكر ومعهم القوى السياسية الأخرى وأدركوا أن بلدهم أقدم من 1952 فسنكون أمام مشهد جاد للتغيير في مصر، ولكن حتى الآن نحن أمام إعادة ترميم الأدوار المخالفة التي انهارت ولكن لسكان جدد. نوع من العشش فوق البناء القديم، قد لا يطول بقاؤها وتنهار على رؤوسنا كما انهارت الأدوار المخالفة في حالة نظام مبارك، اربطوا الأحزمة.