«القاعدة» بالإنجليزي!

TT

إذا كانت الولايات المتحدة تصنع أحيانا أعداءها؛ فإنها كثيرا ما ترمّزهم وتمنحهم نجومية مجانية، فيما يشبه طريقة التسويق المضاد المعروف في شركات الدعاية الكبرى.

مقتل أنور العولقي، أحد الكوادر غير البارزة في تنظيم القاعدة، الذي تحول منذ الحديث عن تورطه في قضية الميجور نضال مالك حسن إلى رمز لـ«القاعدة» ولكل التيارات المتعاطفة معها، وأصبح يحتل مكانة مركزية في الإعلام القاعدي باعتباره النسخة الإنجليزية من «القاعدة»، ومن هنا بدأت الحكاية التي تتكرر مع كل حالات «الشخصنة» التي تمارسها الولايات المتحدة في حربها على الإرهاب، حيث التركيز على الأشخاص فقط دون محاولة قراءة الظاهرة في إطارها العام، وفي استسهال للحل الأمني دون التفكير في عواقبه القانونية والمجتمعية، فضلا عن تحول النظر في فهم الإرهاب كظاهرة مرتبطة بأسباب معقدة، يتصل فيها السياسي بالديني، وتتقاطع فيها مسائل عالقة لا يمكن لمجرد التصنيف لـ«القاعدة» أن يحلها.

لنبقَ في النسخة الإنجليزية لـ«القاعدة» ومعها كل النسخ الأوروبية لنرى أن الجانب اللامفكر فيه، عادة، هو أزمة الاندماج في المجتمعات الغربية التي تقود بالتالي إلى أزمات متفرعة عنها، كالبحث عن الهوية، ومحاولة الانتقام بشكل لا واع لحالة الرفض المجتمعي، وبالتالي الخيار الأسهل والأكثر نجاعة هو الانتماء لتيار متطرف والعيش معه في عزلة شعورية وانقطاع عن الواقع، لتنتهي حالة الاستقطاب هنا وتبدأ مرحلة التجنيد والعمل، التي عادة ما يتم رصدها في هذه اللحظة، واعتبارها نقطة البداية وعدم التفكير في المرحلة التي سبقتها.

صحيح أن الدور هنا ليس فقط على الدول الغربية التي تعاني من أزمة اندماج المهاجرين إليها؛ بل حتى الأجيال التي تلت جيل المهاجرين، لكن قراءة حالة التطرف فقط في إطار تصدير الأفكار المتطرفة من بلدان إسلامية، دون فهم الدوافع التي تجعلها تنتعش في بيئات غربية، أصبحت الآن أكثر استعدادا لتصدير أفواج من المتطرفين الذين يحملون حصانة الجواز الغربي، كما أن تعدد اللغة والشهادات العلمية العليا التي حصلوا عليها سيجعلهم، ولا شك، النسخة المطورة من الإنتاج القاعدي الذي قد يضعف لكنه لا يموت؛ لبقاء مقاييس العرض والطلب.

أنور العولقي مثال جيد على ما أتحدث عنه هنا من النسخة الإنجليزية المطورة من «القاعدة»، حيث ولد في ولاية «نيو ميكسيكو»، وهو ما يعني أنه نشأ السنين الأولى من عمره في أميركا، ليعود إلى اليمن في الثامنة طفلا متشبعا باللغة والقيم الأميركية، ولا يعرف التحدث بالعربية التي سيتعلمها لاحقا في اليمن، قبل أن يتركها ليعود إلى أميركا لدراسة الهندسة المدنية، وليكمل دراساته العليا، قبل أن يتوقف عن إكمال الدكتوراه لأسباب تحدث عنها هو في رسائل كثيرة، يعود مجملها إلى مشكلة الاندماج والسلوك الأميركي عقب الحادي عشر الأميركي، الذي قد يكون مفتعلا في حالة أنور بسبب أنه قد اعتنق أفكارا متطرفة من قبل، كما أن التحقيقات جعلته في مرمى الرصد بسبب زيارته لعمر عبد الرحمن ووجود صلات بعدد من مفجري برجي التجارة، لكن هذا كله لم يكن ليدين أنور بالشكل القانوني في الولايات المتحدة، لولا أنه اتخذ قرار مناصبة الولايات المتحدة العداء، والتحريض علنا عبر مشواره الدعوي الجديد والطارئ، والذي تطور مع قراره بالتوجه إلى تعلم مبادئ العلوم الدينية، ليتحول إلى داعية باللغة الإنجليزية يتحدث بفصاحة وطلاقة عن العداء للغرب من خلال شبكة الإنترنت، ثم يمارس وظيفة الإمامة والخطابة منذ عام 2000 لسنتين، حيث عمل إماما لمسجد دار الهجرة، ثاني أكبر مسجد في الولايات المتحدة، وبالتالي فهو كان أحد الرموز للجاليات المسلمة في مسجد كهذا يصلي فيه الآلاف، وهنا نعود مجددا إلى أزمة تتصل بمعضلة الاندماج، وهي تلك الفجوة العميقة بين المؤسسات الدينية في أميركا وبين حكومة الولايات المتحدة، وهي أزمة حقيقية ومتجذرة، مرجعها إلى عدم ثقة الطرفين لأسباب كثيرة، وحتى تلك المنظمات التي تحاول لعب دور الوسيط هي أقرب إلى شركات PR العلاقات العامة، منها إلى فاعل حقيقي في تجسير تلك الهوة وإعادة طرح مفهوم الاندماج.

العولقي يعد أول شخص أميركي يوضع على اللائحة الأميركية للإرهاب لكنه لن يكون الأخير، فـ«القاعدة» بالنسخة العربية تعيش مرضها، لكن أخواتها في الولايات المتحدة والغرب لا يزالون في طور التشكل، لا سيما أن مشكلة الاندماج تزداد تفاقما لتصبح مثل سؤال البيضة والدجاجة، فهم غير مندمجين لأن لديهم أفكارا متطرفة أم أنهم متطرفون لأن مجتمعهم نبذهم؟

الأكيد أن عدم وجود حلول شاملة لمعضلة الإرهاب العالمية، وليس فقط الحل الأمني، سيعيد إنتاج بؤر الإرهاب، عبر صور متعددة قد تفاجئنا كما فاجأ العالم كله انهيار مبنى التجارة قبل عقد من الزمان في صورة ما زالت حاضرة في المخيال الجمعي للطرفين، ملهبة لحماس المتطرفة ومحفزّة على استمرار المعركة ضدهم!

[email protected]