القضية الفلسطينية.. التحديات والاحتمالات

TT

لم تشهد القضية الفلسطينية زخما على الساحة الدولية قدر الذي تعيشه هذه الأيام وذلك رغم كل المخططات الصهيونية التي كانت تعمل جاهدة على أن يتجاهل المجتمع الدولي هذه القضية حتى يأتي وقت ينساها تماما. ولكن - ولأول مرة - حدث عكس ما تخطط له إسرائيل وأصبحت القضية الفلسطينية شغلا شاغلا للعالم كله.

ويطول بنا الحديث لو أردنا أن نعود إلى جذور هذه القضية التي بدأت في صورتها الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى وقرار عصبة الأمم بانتداب بريطانيا العظمى - آنذاك - على فلسطين التي كانت جزءا من إقليم الشام الذي كان تابعا كله للإمبراطورية العثمانية.

ولما هزمت الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى هزيمة منكرة وجرى توزيع تركتها وفق معاهدة «سايكس بيكو» كانت فلسطين وشرق الأردن من نصيب الانتداب البريطاني على حين كان لبنان وسوريا من نصيب الانتداب الفرنسي. هذا عن منطقة الشام بما فيها فلسطين.

وفي تلك الآونة وتحت ضغط الحركة الصهيونية أصدر وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور وعده الشهير بإقامة وطن قومي لليهود على جزء من أرض فلسطين.

وفتح ذلك الوعد الباب أمام حركة هجرة منظمة لكثير من يهود العالم إلى ما اعتبروه أرض الميعاد: أرض إسرائيل. وبنى المهاجرون عشرات المستوطنات على أجزاء كثيرة من أرض الانتداب. وكانت المستوطنات في نفس الوقت وحدات اقتصادية وثكنات عسكرية لإدراك إسرائيل أنها تقيمها في مناخ يرفضها ولا يريدها وسط الشعب العربي في فلسطين.

وتكاثرت الهجرة. وقامت الثورة الفلسطينية الأولى ضد الانتداب والهجرة معا عام 1932 وعام 1936 وأدى ذلك إلى تشكيل لجان دولية لبحث المشكلة وكان اتجاه هذه اللجان في توصياتها إلى توطين اليهود على جزء من الأرض الفلسطينية دون المساس بالتزامات الدولة المنتدبة - بريطانيا - التي كان يفترض في صك الانتداب أن تأخذ بيد الشعب الفلسطيني لتحقيق استقلاله ولم يكن يتفق مطلقا مع هذه الغاية من غايات الانتداب أن يقتطع جزء من أرض فلسطين ليكون بمثابة «غيتو» يهودي جديد.

وقامت الحرب العالمية الثانية عام 1939 وراهنت الصهيونية العالمية على قوة الحلفاء وعلى نفوذها في الولايات المتحدة التي انضمت إليهم - معسكر العالم الحر كما كان يقال له - وانتهت الحرب بهزيمة ساحقة ماحقة لكل من ألمانيا وإيطاليا واليابان.

وقامت في أعقاب الحرب العالمية الثانية منظمة الأمم المتحدة. وعقدت الشعوب كثيرا من الآمال في السلام والعدل على المنظمة الجديدة.

وعلى أرض فلسطين تصاعدت الهجرة اليهودية وتصاعد الصدام بين السكان الأصليين والمهاجرين الوافدين. ومرة أخرى شكلت لجان لدراسة المشكلة. وكما حدث في المرات السابقة استطاعت الحركة الصهيونية مدعومة بالولايات المتحدة أن تستصدر قرارا من الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 بتقسيم أرض فلسطين إلى دولتين دولة إسرائيل الجديدة ودولة فلسطين الأصلية.

وفي الخامس عشر من مايو (أيار) 1948 أعلن قيام دولة إسرائيل وتوالى اعتراف العالم بها وفي مقدمة من اعترف - في نفس يوم الإعلان عن قيام الدولة - الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي - آنذاك - وتبعتها دول العالم واحدة واحدة.

وفي المقابل فإن العرب إذ رفضوا قرار التقسيم ولم يعلنوا قيام دولة فلسطينية على أساسه فقد ظلوا في نظر المجتمع الدولي الذي تمثله منظمة الأمم المتحدة كيانا بغير شخصية دولية.

وبدأت إسرائيل إنشاء دولة حديثة تقوم من الأساس على مبدأ عنصري يقضي بإقامة دولة يهودية نقية وعلى إقصاء كل العرب عن كل أرضهم التي عاشوا عليها قرونا بدعوى أن هذه الأرض هي الأرض التي وعد بها الله إبراهيم لتكون وطنا لأبناء إسرائيل. ومضى اليهود في تنفيذ مخططهم خطوة خطوة حتى اقتضموا أكثر من خمسة وسبعين في المائة من الأرض الفلسطينية.

ووصلنا إلى ما وصلنا إليه.

ورفض الشعب الفلسطيني هذا الواقع وبدأ يقاومه. وقامت منظمات فلسطينية، كان أهمها في البداية منظمة فتح التي قادها ياسر عرفات والتي بدأ تكوينها في القاهرة حيث كان يدرس في كلية الهندسة ثم في الكويت حيث كان يعمل هناك ثم انتقلت المنظمة إلى مكانها الطبيعي على أرض فلسطين.

ولما كان لكل فعل رد فعل - حتى ولو لم يكن على قدره من القوة - فإن التمدد الإسرائيلي والسعي إلى الاستيلاء على الأرض الفلسطينية جزءا جزءا بكل الوسائل المشروعة - بالشراء من قلة من العرب - أو غير المشروعة كالاستيلاء بالقوة، والواقع أن الوسائل غير المشروعة وهي الغصب والاستيلاء كانت هي السائدة وهي التي حققت ما حققته من هذا الوضع المخيف. العرب يضعون يدهم على نحو 22 في المائة من أرضهم وإسرائيل تضع يدها على قرابة ثمانين في المائة من أرض فلسطين الأصلية.

وكان الرهان الإسرائيلي على أن الشعب العربي في فلسطين شعب هامد قريب من الموت، وأنه إما أن يرضخ للغطرسة الإسرائيلية ويعيش ذليلا في كنفها وإما أن يرحل، والثانية أفضل بطبيعة الحال، ولكن لم تسر الأمور على هذا النحو. انتفض الشعب العربي في فلسطين أكثر من انتفاضة ووجه ضربات موجعة لدولة البغي - دولة إسرائيل.

تكونت منظمات فلسطينية أخرى إلى جوار فتح، كان أهمها منظمة حماس التي استطاعت أن تحقق في الانتخابات التشريعية الفلسطينية أغلبية ساحقة في قطاع غزة. ونشأ عن ذلك وضع خطير - هو من أخطر التحديات للقضية الفلسطينية - ذلك هو قيام وحدتين فلسطينيتين وحكومتين فلسطينيتين وتوجهين فلسطينيين، واحد في الضفة وآخر في غزة. وهو الأمر الذي لا يمكن أن تتحمله مراحل التحرير التي تحتاج إلى أن يقف الفلسطينيون جميعا صفا واحدا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.

وناديت ونادى كثيرون غيري بذلك.

وبعد مشاحنات ومصادمات بدأت الإفاقة وبدأ إدراك أن الصلح بين الفريقين وتوحيد الصف أمر لا غنى عنه إذا أردنا للقضية الفلسطينية حلا يحفظ ماء الوجه.

والحقيقة أن التحدي الأول الذي كان يقف أمام الوصول إلى حل للقضية الفلسطينية كان هو الانقسام الفلسطيني. وقد بدأ هذا الانقسام الآن في الانحسار وإن لم ينته تماما.

والتحدي الثاني هو الهوان والتشرذم العربي وغياب مصر في الفترة الماضية غيابا شبه كامل عن المشهد العربي. وقد بدأت أطراف كثيرة في المنظومة العربية تدرك أن الخطر الصهيوني ليس فقط على فلسطين فقط، وأن الأطماع الصهيونية بغير حدود وتريد السيطرة على المنطقة بالكامل من الناحية الاقتصادية أولا وبالتالي من الناحية السياسية.

وكان يساعد على قوة هذا التحدي وجود أنظمة حكم لا صلة لها بشعوبها، بل إنها كانت مسلطة على شعوبها، ولكن الأمور تغيرت وبدأت الثورات الشعبية تجتاح العالم العربي وتنقل السلطة تدريجيا من يد الطغاة إلى يد الشعوب، وهذا أمر بالغ الخطر على إسرائيل بعد أن كان حكم الطغاة مناسبا لها وبالغ الخطر على القضية الفلسطينية في نفس الوقت.

أما المجتمع الدولي، فالذي يشاهد الساحة الدولية الآن يلاحظ عددا من الملاحظات. العمى الأميركي والانحياز الكامل لإسرائيل يزداد كلما اقتربت الانتخابات التشريعية أو الرئاسية ثم ينحسر قليلا بعد ذلك وتظهر بعض الأصوات العاقلة التي تنادي بأن مصالح الولايات المتحدة هي مع الجانب العربي وليست مع إسرائيل.

وهنا يجب أن يقوم العرب، خاصة الدول النفطية، بدور أكثر فعالية في الضغط على الولايات المتحدة لإشعارها بأن انحيازها الكامل غير العادل لإسرائيل يهدد مصالحها في المنطقة، وأن هذا التهديد ممكن الحدوث، وقد حدث فعلا قبل ذلك إبان حرب 1973 عندما أدرك العرب هذه الحقيقة وحاولوا الاستفادة منها. والمجتمع الأوروبي العادي - مجتمع الناس العاديين - ليس مجتمعا مرحبا بالغرور الإسرائيلي، وإن كانت أبواق الدعاية الصهيونية ذات تأثير بالغ على الرأي العام، ولكن ذلك لم يمنع أن أصواتا عاقلة كثيرة قد بدأت تدرك مدى خطر التعصب الصهيوني والغطرسة الإسرائيلية على سلام العالم كله – بل إن دراسات كثيرة قد بدأت في كثير من دول أوروبا تحذر من الخطر الصهيوني على العالم، وقد صدر مؤخرا كتاب في فرنسا - قد أعود إليه فيما بعد - بعنوان «إسرائيل سبب الحرب العالمية الثالث Israel cause de troisième guerre mondiale » لا أحد يستطيع أن ينكر أن قدرا من التغير والإفاقة قد بدأ في الرأي العام العالمي حتى داخل الولايات المتحدة نفسها، صحيح هذا التغير لم يبلغ غايته بعد، ولكن البداية تنبئ بخير كبير.

وهكذا يضعف أحد التحديات الأساسية في مواجهة القضية الفلسطينية، لقد كان الرأي العام العالمي في جملته منحازا لها، ولكن السنوات الأخيرة بدأت تشاهد قدرا من التحول وقدرا من الموضوعية وقدرا من الفهم للقضية الفلسطينية وللحق الفلسطيني.

وهنا نصل إلى المرحلة الراهنة: الوقوف على باب الأمم المتحدة للحصول على وضع الدولة الكاملة العضوية في المنظمة الدولية.

وليكن هذا الأمر موضوع مقالنا القادم بإذن الله.

* نائب رئيس الوزراء المصري السابق