حيلة فاتت «ديكتاتوريات العروبة»

TT

إذا كان ثمة فضل لا يجوز لديكتاتوريات العروبة أن تنساه فهو فضل روسيا عليهم، سياسيا وذهنيا.

مع ذلك، وعلى الرغم من أن الديكتاتوريات العربية تعتبر من مخلفات المدرسة السياسية الروسية في عهدها السوفياتي، ومن تلامذة رسالتها الأوتوقراطية، فقد فات أسيادها استخلاص العبر من انهيارها.. بقدر ما فاتهم تقليد ورثة مدرستها المنهارة.

لو استخلص ديكتاتوريو العروبة العبر السياسية من سقوط أعتى ديكتاتوريات القرن العشرين، لكانوا سارعوا إلى اتخاذ تدابير «وقائية» تشتري الوقت وإن لم تشتر الشارع. إلا أن المفارقة كانت، على هذا الصعيد، أن الورثة المباشرين للمدرسة الأوتوقراطية السوفياتية كانوا السباقين في استخلاص هذه العبر... وإدامة تقليد الكرملين السلطوي ولكن بحلة جديدة، ظاهرها ديمقراطي وباطنها استمراري.

دروس الواقع السياسي الروسي، منذ تسلم فلاديمير بوتين مقاليد الحكم، حافلة بالعبر المفوتة من ديكتاتوريي العروبة.

في روسيا تغيّرت هوية النظام وبقيت مدرسته الأوتوقراطية قائمة في إطار أسلوب حذق من الديمقراطية «الموجهة». ولذلك لم يشكل إبلاغ الرئيس الروسي السابق، فلاديمير بوتين، حزبه عن رغبته في الترشح مجددا لانتخابات الرئاسة الروسية، العام المقبل، مفاجأة لأحد.. فالاستمرارية هي العنوان الرئيسي للديمقراطية الروسية الموجهة.

وعليه، إذا كان الدستور الروسي يسمح بولايتين رئاسيتين متتاليتين، فقط لا غير، فإن بوتين أثبت، عام 2008، «احترامه» لدستور بلاده بتخليه عن الرئاسة لفترة ولاية واحدة (أربع سنوات) وذلك لربيبه، الرئيس الحالي، ديمتري ميدفيدف... وإن كان هذا التخلي لم يستتبع يوما ابتعاده عن السلطة بحكم توليه منصب رئاسة الحكومة.

واليوم، وفي ظل نظام الديمقراطية الموجهة الناجح في روسيا، لا يساور أي مراقب سياسي - روسيا كان أم أجنبيا - أدنى شك في فوز بوتين بانتخابات الرئاسة المقبلة، خصوصا أنه لا يخلو من شعبية لا بأس بها، نتيجة إقناعه الشارع الروسي بأن ما يشهده من استقرار ونمو يعود الفضل فيه إلى وجوده في السلطة. وهذا يعني أنه بعد انقضاء ولاية ميدفيديف «الفاصلة» بين عهدين بوتينيين، يصبح بإمكان الرئيس بوتين الترشح لولايتين متتاليتين، والاستمرار في الحكم لغاية العام 2024، ما سيجعله الرئيس الروسي الديمقراطي الأطول إقامة في الكرملين بعد ستالين الأوتوقراطي.

وهكذا سوف يثبت بوتين مرة أخرى عام 2012 المقبل، احترامه للعبة الديمقراطية من خلال ترتيب «انتخابي» يضمن استمراره في السلطة... بالأصالة (معظم الوقت) والوكالة (بعض الوقت).

أسلوب «استمرارية» بوتين في الكرملين دليل عملي على أن حكم الفرد لا يزال متاحا في عالم ديمقراطيات القرن الحادي والعشرين... شريطة توصل النظام إلى إخراج سياسي له يلبي، ظاهرا، أولى متطلبات الأنظمة الديمقراطية، أي التداول الشرعي للسلطة.

وهنا يصح التساؤل: ألم يكن ممكنا لديكتاتوريي العروبة «التحايل» على الديمقراطية وممارسة لعبة تداول السلطة على الطريقة الروسية كي يوحوا لشعوبهم، على الأقل، أنهم ملتزمون بشكل من أشكال الديمقراطية الصورية؟

في الواقع لم يقصّر ديكتاتوريو العروبة في إقامة «ديمقراطيات موجهة» في بلادهم، ولا حتى في تنظيم انتخابات برلمانية شكلية تعيد استنساخ النظام ووجوهه.

مع ذلك، بقيت فكرة التخلي «مؤقتا» عن كرسي الحكم لأقرب «ربيب» لهم من رابع المستحيلات... لأن حسهم الديكتاتوري المرهف يرفض التخلي عن الكرسي - ولو للحظة - لمن لا يثبت فحص حمضه النووي أنه من السليلة المباشرة للديكتاتور.

قد تكون هذه الظاهرة الفارق الأساسي بين سلطوية الكرملين وسلطوية ديكتاتوريي العروبة... ولكن بقدر ما تثبت هذه الظاهرة عراقة الأوتوقراطية الروسية، تثبت أيضا أن الديكتاتوريين العرب، على الرغم من تشبثهم المستميت بالسلطة، ظلوا مقصرين في أوتوقراطيتهم تقصير المقلد عن المبدع.