الانتخابات المقبلة في المغرب

TT

بعد نحو شهر ونصف من الآن (25 نوفمبر المقبل) ستجري في المغرب أول انتخابات تشريعية بعد المصادقة على الدستور الجديد وذلك لاختيار ممثلي الأمة في مجلس النواب، إحدى الغرفتين اللتين يتكون منهما البرلمان في المغرب. يتعلق الأمر، من جانب أول، بالخطوة الأولى الفعلية والكبرى في سبيل تفعيل الدستور الجديد ومن جهة ثانية باختبار لقدرة كل من الدولة والمجتمع السياسي على اقتحام التجربة الجديدة. يقوم الاختبار، بالنسبة للدولة، في القدرة على توفير الشروط الكافية من أجل تحقيق انتخابات نزيهة وشفافة مما يمكن من صياغة صورية صادقة لحقيقة المشهد السياسي في البلاد. ويكمن الاختبار، بالنسبة للقوى السياسية في المغرب في ترشيح من ترى فيهم الأفضل والأقدر على تمثيل الحزب السياسي الذي يكون الترشيح للغرفة الأولى باسمه. وبالتالي فإن الامتحان الفعلي هو ذاك الذي يرجع إلى القدرة على رفع التحدي الديمقراطي الصعب. الحق أن الدستور المغربي، في حلته الجديدة، يستجيب، فيما يتعلق بالبرلمان لمطلبين أساسيين ظلت القوى السياسية في المغرب تلح في المطالبة بهما. أول المطلبين يتعلق بإكساب المجلس صلاحيات أكبر في التشريع وفي المراقبة معا. وثانيهما، تنظيمي في ظاهره ولكنه سياسي في عمقه إذ من شأنه أن يعمل على إفساد الممارسة السياسية السليمة مثلما أن من شأنه الحرص على مصداقيتها، والقصد هو النص الصريح في الدستور على التجريد من العضوية «كل من تخلى عن انتمائه السياسي الذي ترشح باسمه للانتخابات» ومن ثم فإنه يوضع حد لما عرف في الحياة البرلمانية في المغرب، في السابق، بظاهرة «الترحال السياسي»، أي الانتقال من انتماء سياسي إلى انتماء آخر ربما كان مع الانتماء الأصلي على طرفي نقيض، بل إن ذلك ما كان يحدث بالفعل. وتلك، لا شك في ذلك، خطوة إيجابية حاسمة في حراسة الحياة السياسية السليمة وحمايتها من العبث ومن الأسباب الكبرى في افتقاد المصداقية. من المفيد أن نضيف، في معرض الحديث عن الجدة، أن من جملة القوانين التنظيمية التي تمت المصادقة عليها، بعد جدل سياسي غير يسير، القانون الذي تم بموجبه تمكين ستين من النساء وثلاثين من الشباب الذين تقل أعمارهم عن أربعين سنة، من الوصول إلى البرلمان في نطاق «اللائحة الوطنية». هذا بجانب نصوص تنظيمية حسمت في قضايا خلافية (العتبة، الجمع بين عضوية مجلس النواب أو مجلس المستشارين وعضوية مجلس جهوي..). تعني اللائحة الوطنية، في نهاية الأمر، ضمان توافر البرلمان على حد أدنى من تمثيلية كل من الشباب والنساء وبطبيعة الأمر لا شيء يمنع، من الناحية المبدئية، ترشيح كل من النساء والشباب الذين تقل أعمارهم عن خمس وأربعين سنة، خارج اللائحة الوطنية المذكورة. ومن البين بذاته أن احتدادا، بل معركة فعلية، تقوم داخل الأحزاب المتنافسة من أجل الوجود على رأس اللائحة.

لكن الجدل الأكبر الذي استعر في الساحة السياسية في المغرب هو ذاك الذي يتعلق بالموقف الواجب اتخاذه تجاه الانتخابات ذاتها: القول بالمشاركة أو الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات مثلما كانت الدعوة عند دعاة المقاطعة، قبل ثلاثة أشهر، إلى مقاطعة التصويت على مشروع الدستور المغربي الذي تمت الموافقة عليه يوم فاتح يوليو الماضي بالأغلبية الساحقة. ذلك أن دعاة مقاطعة الانتخابات اليوم هم أنفسهم أولئك الذين جيشوا أنصارهم للدعوة إلى مقاطعة التصويت في بداية الصيف المنصرم. الاحتجاج بالأمس كان بدعوى الاعتراض على المنهجية التي اعتمدت في اقتراح مشروع، فالمنهجية التي اعتمدت وأقرتها الأغلبية المطلقة، بل الساحقة بشهادة الأرقام، جعلت الدستور المقترح يتسم بصفة «الممنوح» (بمعنى أنه يقدم للشعب كما لو كان منحة أو منة تنزل من فوق) وبعبارة أخرى فهو يجعل المغاربة في وضع دون وضعية المواطنة، إذ إن هذه الأخيرة تقتضي اعتبار العقل والحرية والقدرة على المشاركة في صناعة القرار وفي حال الدستور ليس ذلك يتأتى إلا بإقرار مجلس تأسيسي يتم انتخابه، خصيصا من أجل كتابة مسودة الدستور. نرجع إلى هذه الأوليات في الخلاف حتى نتبين أن الروح التي تحكم الدعوة إلى المقاطعة تظل واحدة. يتبين ذلك في فحص مجمل الأسباب التي يسوقها دعاة مقاطعة الانتخابات المقبلة. يجب أن نعرف، توخيا لوضوح ضروري في المشهد السياسي في المغرب إجمالا، أن دعاة المقاطعة يقبلون التصنيف في فئات ثلاث. فئة أولى تمثلها جماعة العدل والإحسان، وهذا كما نعلم، تنظيم هو بين الجمعية المدنية الكبيرة وبين الهيئة السياسية التي هي إما في حال من التردد بين الانخراط في الحياة السياسية على النحو الذي يرتضيه السواد الأعظم من المغاربة وتقره المبادئ الكبرى التي يقرها تصدير (= ديباجة) الدستور المغربي وبين قبول وضعية ألفتها مدة غير قليلة مع ما تحمله من غموض في النظر. وفئة ثانية هي، على الإجمال الأحزاب التي تدخل في عداد الأحزاب اليسارية الراديكالية، بما في ذلك الاستمرار في تبني الأطروحات الماركسية - اللينينية المعروفة. وفئة ثالثة، تصعب الإحاطة بمكوناتها، وهي التي تمثلها شبيبة 20 فبراير - وهذه الأخيرة تتقاذفها الأمواج، فيما يبدو من خطابات البعض من الوجوه البارزة فيها، بين اليسار الراديكالي وبين المنتمين أو المتعاطفين مع جماعة العدل والإحسان. يمكن القول، بالتالي إن مواقف الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات التشريعية المقبلة، مع اختلاف الرؤى التي تصد رعنها تلتقي جميعها عند ناظم واحد يوحد بينها وهو القبول من الحياة السياسية بالوجود خارجها.

على أن الشأن عند بعض الأحزاب التي أبدت نوعا من التحفظ في البداية خاصة، وهذا هو الشأن على وجه الخصوص عند حزب العدالة والتنمية، لم يكن يخلو من المجاهرة بشروط اعتبرت توافرها ضمانات ضرورية لنزاهة الانتخابات المقبلة وفي مقدمة تلك الشروط إحداث حركية في وجود بعض الولاة والعمال (المحافظين)، والحق أن أحزابا أخرى، أحدها يوجد في الائتلاف الحكومي الحالي تشاطرها نفس النظرة. كذلك نلاحظ أن بعضا من الأحزاب دعا إلى الالتزام بميثاق شرف يمتنع الحزب الموقع على الميثاق بموجبه من ترشيح كل من كانت «عدالته» (كما يقول الفقهاء) محل خدش. والحق أيضا أن هذه معضلة أخرى وسلبية بينة تمس الممارسة الديمقراطية في المغرب في بعض تجلياتها، بشهادة الجدل الذي احتدم حول وجود أشخاص من الشاكلة المشار إليها تحت قبة البرلمان والأدهى والأمر أنها تشغل مقعدا برلمانيا باسم أحزاب كبرى تحظى بالمصداقية.

تخوض الأحزاب المغربية، باستثناء دعاة المقاطعة طبعا، منذ بضعة أسابيع معارك داخلية من الوجود على رأس القائمة (بالنسبة للائحة الوطنية كما ذكرنا أعلاه) وهي معارك تراوحت بين الحدة والتحالفات وحروب المواقع بل وإبراز سلاح التهديد بمغادرة الحزب ذاته نحو حزب آخر (بوضوح وبساطة شديدين، إذ إن الوجهاء أو الأعيان - كما نسميهم في المغرب يعتدون بنفوذهم الشخصي وبقدرتهم على تسخير روابط وتحالفات لا تكون دوما في خط السير السياسي المنطقي ولا الطبيعي) وبين الحروب الصامتة أو الهامسة بالأحرى. وقد يقال إن هذه الممارسات لا تخرج، في مجملها عن الممارسات الطبيعية (مع استثناء التلويح بمغادرة الحزب نحو حزب آخر)، وربما كان الأمر لا يخلو من صدق غير أن ما يتهدد التجربة الديمقراطية الفتية في المغرب هو الداء الذي ما يفتأ يلازمها ويحول دون الانطلاقة الفعلية والسليمة معا والقصد، كما في الوسع تقدير ذلك، هو داء العزوف أو الانصراف عن الانخراط الواعي في الشأن السياسي.