في (جمس) الهيئة

TT

تعرفت على رجل (لم ينزل لي من زور)، وكرهته من أول لقاء، نظرا لغطرسته التي لا تخطئها العين، وسألت أحد مرافقيه وجلاّسه: كيف تستطيع أن تستحمل ذلك (العلـة)؟!

فقال: إنك عندما تلتقي (بفلان) لأول مرة تكتشف مساوئه دفعة واحدة، ولكن عليك أن تصبر لتقضي بقية حياتك لتكتشف فضائله يوما بعد يوم.

وتأكد لي ذلك بعد أن قررت أن أصبر عليه قليلا، وهو اليوم يا سبحان الله غدا من أعز أصدقائي، خصوصا أن الذي (عنده ليس له) - أي أنه باختصار: حاتم الطائي (Junior).

* * *

تجادلت مع رجل له باع طويل بالمنطق والفلسفة، بقدر ما لي أنا من باع طويل بالتهكم والمسخرة، فقال لي وهو مقطب الحاجبين: هل تعلم أن أول الفكرة هي آخر العمل، وأن أول العمل هو آخر الفكرة؟!

فأجبته: لا والله إنني لا أعلم ولا أريد أن أعلم.

فقال: أعرف أنك تستهزئ بكلامي.

فرددت عليه: أبدا ولكن أرجوك اشرح لي، وضح لي، نورني، أمسك أذني و(امصعها).

قال: أريدك أن تستوعب فقط ما ذكره (محمد بن الجهم) عندما أكد وضرب مثلا بالآتي:

«إذا قال رجل: إني صانع بيتا، وقعت فكرته أول ما تقع على السقف، ثم انحدر فعلم أن السقف لا يقوم إلا على حائط، وأن الحائط لا يقوم إلا على أساس، وأن الأساس لا يقوم إلا على أصل، ثم ابتدأ في العمل بالأصل، ثم بالأساس، ثم بالحائط، ثم بالسقف، فكان ابتداء تفكره آخر عمله، وآخر تفكره ابتداء عمله، وهذا معناه أن أول الفكرة آخر العمل، وأن آخر العمل أول الفكرة!» فهل فهمت الآن (يا بقم)؟!

فرفعت له كتفي، وقلّبت له يدي، ومططت له براطمي، دلالة أنني فهمت ولم أفهم.

* * *

جاءني أحدهم يوما ووجدني كئيبا مهموما على غير عادتي، ويبدو أنه أراد أن يخفف عني ويخرجني من حالتي المزرية التي أنا عليها، فقال لي ببراءة وصدق: إن الطريق الوحيد إلى السعادة والقناعة هو أن تقبل كل يوم على عملك وأنت واثق ومستبشر، وأن تلقي أعباءك في المساء دون أن يلازمك همّ ما.

فكسحته عندما قلت له: الله يرضى عليك لا تذكرني بالعمل.

فقال: هذه هي مشكلتك المستعصية لأنك (ضاربها جزمه)، ولكن أسألك بالله: لو أنه لم يبق لك في هذه الدنيا سوى (48) ساعة فقط، فكيف تقضيها؟!

الواقع أن سؤاله ذاك استفزني، وجعلني أعتدل على حيلي، وأفرصع عيني ثم أدبّلها، ثم أحلم بشيء من الفجيعة، ثم أجبته قائلا: إنني لن أعيش تلك الساعات كل واحدة منهن على حدة، بل إنني سوف أعيشها كلها متصلة من دون أن يغمض لي جفن ودون أن تخمد لي جوارح.

ولا أستبعد على الإطلاق أن هيئة (الأمر بالمعروف) سوف تضعني في أحد (جموسها) غير معزّز ولا مكرّم، وذلك في تمام الساعة السابعة والأربعين، وبعدها ما هي إلا ساعة واحدة وأكون قد اتكلت على الله وأنا قرير العين وشبعان و(رويان) على الآخر.

[email protected]