طبول البن لإيقاظي!

TT

كان جوابي اليومي على أين نلتقي ومتى؟ فأقول: في البن أي في محل البن البرازيلي! ولا أذكر الساعة.. فمن المعروف أنني هناك صباحا ومساء.. ولم أفكر كم من الوقت ضاع.. ولا كم من العمر.. أكثر من عشرة آلاف ساعة في أكثر من عشر سنوات.. لم أكن شاذا عندما نزلت من الطائرة واتجهت بحقيبتي إلى محل «البن البرازيلي»، وبعد أن شربت القهوة ووقفت وتلفت وانتظرت ورأيت وتنهدت وتوجعت وتمنيت.. اكتشفت أنني كنت على سفر، وأنني لم أذهب إلى البيت أو إلى المكتب.. فحملت إليه حقيبتي، فهو الطريق إلى كل طريق.. والبداية لكل نهاية فما الذي هناك؟!

لا شيء، لا أحد.. أنا الذي هناك.. أما الذي أريده فهو أن أكون في الزحام أقاومه ثم لا أدري به.. ومن هذا الزحام تتولد مقاومة سرية في داخلي لكي أكون وحدي بين الأجسام والألوان والأصوات والروائح، أتصدى لها وأتحداها وأسد منافذ الحس عندي وأعكف على داخلي..

هناك في البن: الدخان والاحتراق..

هناك ذرات القهوة.. كل ذرة كأنها «طبلة مسحراتي» توقظ كل خلية نائمة.. هناك أجد متعتي الكبرى في أن أكون على الشاطئ.. والأرض ورائي والبحر أمامي.. هناك الوجود والعدم.. أنا الوجود وما عداي عدم.. هناك الصومعة.. فمحل البن صومعة راهب.. امتلأت بأصوات الدنيا.. ولابد أن أنزه نفسي عنها.. فليس راهبا من يعيش في الصحراء.. لا يقاوم إلا نفسه.. ولكن الراهب هو الغارق في الدنيا ويرفضها.. غارق في اللذة ويزهد فيها.. ملاك بين شياطين..

كأن محل البن البرازيلي أحد المعامل.. إحدى سفن الفضاء.. كأنه خيمة أسرة غجرية.. أفرادها كثيرون وليست بينهم صلة أو علاقة.. إنهم معا.. وليسوا معا.. إنهم خائفون معا.. حائرون معا.. غرباء معا.. يتمسكون بحبال من أبخرة القهوة والشاي، وسعداء بوحدة «الكيف» وبهذا التحدي..

فعلى الرغم من أن البن الذي نشربه اسمه البرازيلي، فإنه اختلط بالذرة المصرية والفول والحمص.. ولكنه ما يزال يحتفظ بأكذوبة أنه جاء من البرازيل.. وكثيرا ما عاب علينا الناس أننا نقف بباب البن وأمامه نعترض الناس.. ثم ما الذي يجعلنا هكذا نتسكع على بابه.. مع أننا لسنا عاطلين ولا فارغين ولا تافهين.. وعلى الرغم من هذه المعاني وبسببها كنا نقف ولا يهمنا ما الذي يقال.. إننا نريد أن نقف.. وفي هذا الوقوف كنا نحس أننا لسنا على الأرض.. وإنما فوقها ولسنا فوق الأرض.. دائما فوق العمارات.. كأننا «إريال» لالتقاط الصوت والصورة.. كأننا تلك الأعواد المعدنية التي يضعونها فوق العمارات لتمتص الصواعق فلا تحترق العمارات.. كأننا أصابع لامعة تشير إلى النجوم.. أو كأننا تلك الأعمدة القوية الجبارة من الماء التي تخرج من رأس الحوت دليلا على أنه غاص تحت الماء وأنه يريد أن يطفو، ولذلك يفرغ الماء من أعماقه لكي يخف وزنه!